بعد صدمة الحداثة التي بدأت مع حملة نابليون على مصر، وجد الوعي الإسلامي نفسه في مأزق جد صعب يتمثل في صعوبة التوفيق بين خطابه وما جد في ساحة العلم والفكر لدى الغرب، ومرد ذلك كون الخطاب الإسلامي يعتمد مرجعيات فقهية سلفية لم تعد تواكب مستوى الوعي الغربي الجديد المؤسس على ثورة العلوم الحديثة بمختلف فروعها.
وبدل أن يعمل الخطاب الديني الإسلامي على تجديد مضمونه ارتد بشكل نكوصي إلى ذاته محاولا بصعوبة التوفيق بين نتائج العلوم الحديثة ومضامين النص القرآني، متناسيا أن القرآن ليس كتاب علوم بقدر ما هو رسالة سماوية تستهدف بالدرجة الأولى تهذيب النفوس وإصلاحها كغيرها من الرسائل السماوية السابقة عليها.
وهذه المحاولة تتجاهل كذلك كون نتائج العلوم الحديثة هي حصيلة تراكمات معاناة البشرية مع المعرفة، بل كذلك حصيلة أخطاء سقط فيها الوعي الإنساني في مقاربته للظواهر.
وهذا على الأقل ما يؤكده باشلار عندما رأى أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه. لقد تعمدنا إثارة هذا الإشكال لتأكيد أن الوعي الديني قد يسقط بسبب ذلك في مأزق لا مخرج منه باعتبار أن الحقيقة العلمية تتطور وتتغير حسب أحوال ومستوى تطور المعرفة و النص الديني تابت، فلا أحد يجادل في الانقلاب الذي أحدثه انشتاين في حقل الفيزياء بنظرية النسبية الشهيرة.
لم يقتصر الوعي أو الخطاب الديني على حقل العلوم لممارسة محاولاته التوفيقية بل حاول الذهاب بعيدا في هذا الأمر عندما انتقل إلى مجال السياسة مدعيا أن الإسلام كان سباقا إلى الديمقراطية من خلال ما يسمى بالشورى، فهل أفلح هذا الخطاب في ذلك؟ هذا ما سنحاول تناوله من خلال تتبع تطبيقات الشورى ورصد مدى رقيها إلى مستوى الديمقراطية وذلك من خلال بعض المحطات في تاريخ المشروع الإسلامي وكذا في تناول بعض القضايا والإشكالات السياسية والفكرية في التاريخ المعاصر.
ولا يفوتنا منذ البداية التأكيد على أمر له قدر كبير من الأهمية وهو كون الشورى كمفهوم له مضمون أخلاقي خلافا لمفهوم الديمقراطية الذي هو تاريخي وتراكمي.
كما أن تطبيق الشورى إذا حدث لا يستند إلى مؤسسات منتخبة وعلى آليات وبرامج سياسية مثلما هو الحال بالنسبة لديمقراطية.
لنعد إذن إلى صلب موضوعنا الذي هو رصد وتتبع تطبيقات الشورى عبر المراحل والحقب التاريخية الحساسة في مشروع ما يسمى بالدولة الإسلامية:
1- مرحلة النبوة
لا نجد في هذه المرحلة صعوبة في التأكيد على أن تطبيق الشورى لا يطرح أية إشكالات لكون الرسول يحظى بالتقدير والاحترام لدى كافة مناصريه وأتباعه، كما أن التشاور في الأمور يتم في حلقة ضيقة تشمل الرسول وصحابته، ولا ينسحب الأمر على سائر الأتباع لإبداء الرأي، بل إن أكثر المحطات أهمية في هذه المرحلة تم الحسم فيها بالشكل الذي ذكرناه سابقا، وهي ما يعرف في تاريخ الإسلام بصلح الحديبية.
إن احترام شخصية الرسول، وضع حدا لكل الانزلاقات التي يمكن أن تضع مبدأ الشورى في المحك، كما حدث في ما بعد، وأول ما يستوقفنا بعد ذلك هو حدث وفاة الرسول وطرح إشكال استخلافه. كذا ذلك بالفعل أمرا صعبا، بحيث تفجر الصراع على الخلافة بين المهاجرين والأنصار بل وبين المهاجرين أنفسهم، وكان وراء ذلك دافع وشعور طبقي دفين يعود إلى التراتبية الطبقية للمهاجرين والأنصار في مرحلة ما قبل نزول الدعوة الإسلامية، ولابد لنا من سرد بعض وقائع ما بعد الوفاة لاستجلاء أمرها وكشف حقائقها.
فبينما كان علي وبعض الصحابة منشغلين بدفن الرسول، اجتمع زعماء الأنصار في سقيفة بني ساعدة واختاروا سعد بن عبادة لخلافة النبي، فبلغ الأمر أبى بكر وعمر وبعض المهاجرين فأسرعوا إلى السقيفة، وكادت الفتنة أن تقوم بين الفريقين لولا مبايعة أبو عبيدة الجراح – وهو من الأنصار – أبى بكر وانقاد الأنصار إلى هذا الرأي.(1)
هنا يجب طرح الأسئلة التالية:
هل تحلى الصحابة المهاجرون والأنصار بالحكمة؟ هل تداولوا في ألأمر بشكل هادئ عملا بمبدأ الشورى؟ هل أشركوا في الأمر عامة المسلمين على الأقل عبر آليات كبار زعماء القبائل التي دخلت في الإسلام؟
لم يكن الأمر كذلك، بل حسم الموقف أبو بكر وعمر استنادا إلى وضعهم الاعتباري، وهنا يتبين إن مبدأ الشورى تعرض لأول انتكاسة له، مما يؤكد أنه لا يرقى إلى مستوى التداول الديمقراطي في هكذا أمور.
ورغم هذا الحسم فإن بني هاشم وهم من آلي البيت غضبوا لكونهم أرادوا استخلاف علي بن أبي طالب.
إن وفاة النبي وطرح إشكالية استخلافه، كان حدثا سياسيا اكبر من أن يحسم فيه بإعمال الشورى لكون الأمر لا يهم نخبة من الصحابة فقط بل هو شأن الأمة الإسلامية جمعاء مما يتطلب إعمال آلية الديمقراطية لإيجاد حل يرضي الجميع، وهنا يضح من جديد تهافت الخطاب الإسلامي حول الشورى والديمقراطية.
2- مرحلة الخلافة
تستوقفنا هنا وقائع أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها تؤكد أن مبدأ الشورى ليس آلية لحل النزاعات، ومن هذه الوقائع ما يعرف في تاريخ الإسلام بحروب الردة التي يحاول البعض اختزالها في البعد الديني دون أن يستحضر السياقات السياسية والاجتماعية التي أطرتها ودون استحضار العمق الاجتماعي للأطراف المتصارعة فيها، ونفيا كذلك للعمق التاريخي والطبقي للأطراف النزاع فيها، وهذا الطرح الميتافيزيقي الاختزالي جعلها تحسم بحد السيف باعتبارها ردة عن الإسلام، دون إعمال مبدأ الشورى رغم قصوره، لفض النزاع خاصة وأنه من غير المقبول أخلاقيا أن تتصارع امة واحد وعلى دين واحد، هذه الوقائع تظهر بما لا يدع مجالا للشك بؤس وتهافت الخطاب الديني في مزايدته على الخطاب الديمقراطي.
سنوات بعد إخماد ما يسمى بحروب الردة ظهر على السطح حدث آخر أكثر مأساوية وأكثر دلالة، وهو الثورة على عثمان ومقتله، وانفجار حروب أخرى بين الصحابة من قبيل حرب الجمل وواقعة صفين.لا يمكن أن يكون ذلك من قبيل الصدفة أو من قبيل المؤامرة التي دأب الخطاب الإسلامي على ترويجها، وإذا اعتمدنا قراءة سيكولوجية للأحداث، فلا يمكن إلا أن نستنتج أن هناك أحقادا دفينة بين كل الأطراف المتصارعة، تراكمت دون أن تجد لها آلية لتصريفها وتذويبها مما يؤكد مرة أخرى قصور الشورى في فض النزاعات، ويطرح علينا هنا إشكال آخر جد معقد وهو إشكال الضمير والأخلاق عند الأطراف المتصارعة لا يتسع المجال هنا لتناوله لكنه مؤشر جديد وقاطع على أن الشورى لا يمكن أن تحل الصراعات الكبرى والمعقدة مثل هذه مما يؤكد من جديد أنها لا ترق إلى مستوى الديمقراطية.
3- قضايا في التاريخ المعاصر
بعد هذا الجرد للقضايا الخلافية والأساسية في مراحل تاريخية بعيدة عنا زمانيا نود أن نشير في عجالة إلى قضايا لا تقل عنها أهمية في تاريخنا المعاصر مع التركيز على مسائل ذات علاقة بالقضايا السياسية والفكرية المعاصرة والتي تؤرق العقل السياسي العربي إلى يومنا هذا، دون إغفال المبدأ الذي يحكمنا في معالجة موضوعنا، ألا وهو تطبيقات الشورى ومدى فعاليتها في تحريك التاريخ ودفع تناقضاته إلى الجدلي، وأول ما يستوقفنا هو قضية المفكر الإسلامي علي عبد الرزاق من خلال كتابه: – الإسلام وأصول الحكم – فما كاد هذا المفكر يستخلص انه لا يوجد ما يؤشر على أن الإسلام فيه ما يكفي من الآليات لتأسيس نظام حكم حتى انبرت أقلام وحناجر المشايخ داعية إلى شن الحرب عليه وتم حرمانه من كافة حقوقه وعزله من منصبه في الجامعة، وهنا نتساءل هل قال علي عبد الرزاق ما يسيء إلى الإسلام ليستحق كل هذا الغضب، طبعا لا، لكنه زعزع أركان وتوابث الفكر الذي أسس عليه من عادوه سلطتهم.هنا يجب التأكيد على أن الأمر الذي أثاره علي عبد الرزاق باجتهاده هو قضية تهم كافة أصحاب الرأي و المفكرين في العالم الإسلامي وليس من حق احد أن يحتكر النقاش فيها لوحده ويصدر فيها الأحكام التي تروقه حفاظا على مركزه الديني – السياسي – ومصالحه الطبقية. ولماذا تم التداول فيها بشكل لا يأخذ بعين الاعتبار تعددية الرأي واختلاف المشارب والمرجعيات الفكرية؟ ليس هذا غريبا لأن مثل هؤلاء لا يتشاورون إلا فيما بينهم من اجل تكريس الاستبداد مما يؤكد مرة أخرى أن نظام الشورى لا يمكن أن يكون بديلا عن الديمقراطية لكونه عاجز عن استيعاب الرأي المخالف، ونفس المأساة تكررت مع طه حسين وفرج فوده وسيد القمني ونصر حامد أبو زيد وستضل تتكرر إذا لم يتشبع الخطاب الإسلامي بآليات النقد الذاتي واستيعاب مستجدات العلوم الحديثة وإدماجها في بنيته وتكييف خطابه ليستوعب متطلبات المرحلة.
احمد الطالبي
أستاذ التعليم الابتدائي
تيزنينت