إن الخواطر الأفكار التي أقترح عليكم مشاطرتها معي من هذا المنبر هي التي كنت أنوي توجيهها لإخوتي في المجلس الوطني لحزب الاستقلال، الذي انعقد أخيرا يومه السبت 21 نوفمبر بحضور عدد غفير من الأعضاء. وقد كانت طلبات التدخل في النقاش بنفس العدد : فقد تم تسجيل ما لا يقل عن 220 طلبا، بما فيها طلب خادمكم المتواضع. فأكثر من ربع القاعة كان يعتقد أن لديه شيئا مفيدا يثري به النقاش ! فليكن. لم يتدخل سوى 80 مناضلا فقط، ولم يكن لي الحظ لكي أكون بينهم، جميعهم ساروا في نفس الاتجاه : من جهة، التنديد العنيف باللجنة التنفيذية، التي تكُون قد انتهكت القانون الداخلي للحزب بوضعها لجدول للأعمال، الدعوة لعقد المؤتمر العادي للاجتماع بصفة استثنائية، والذي قد لا يكون من صلاحياتها بل من اختصاص المجلس الوطني، ومن جهة ثانية، تزكية شخص الأمين العام. لم يتدخل أي عضو من اللجنة التنفيذية ليُخفف من هجمات الأمين العام ضد المخزن، ولا لتبرير أهمية عقد مؤتمر قبل الوقت، ناهيك عن محاولة التأثير في موقف القاعة. كان فوز حميد شباط كاملا. فقد قالت الديمقراطية الآن كلمتها الأخيرة ويجب أن تحترم بحذافيرها، رغم التحفظات المشروعة حول سير النقاش، حيث لم تتمكن الأصوات المخالفة من التعبير عن أنفسها. فقد تأكدت شرعية شباط داخل أجهزة الحزب. لكن في المقابل، يكمن الخلل في تمثيلية المجلس الوطني، الذي يعكس بشكل ناقص تنوع المسارات الشخصية وثراء حساسيات المجتمع المغربي. ولكن هذا موضوع آخر يتطلب جهدا على المدى الطويل. السؤال المركزي الآن هو التأثير على الخط السياسي للحزب، رفع مستوى خطابه العام، تحديد مشروع مجتمعي جديد ووضع برنامج اقتصادي فعّال، عناصرُ بإمكانها أن تبني مستقبل البلاد إذا حملتها على عاتقها شخصيات جديدة، تعرف كيف ترتفع إلى مستوى تحديات الحاضر.
إن مواطنينا يراقبون حزب الاستقلال بصرامة، ولنقُلها صراحة، بغضب. هذا الغضب، الذي عبروا عنه بمناسبة الانتخابات الجماعية والجهوية في ال4 شتنبر الأخير، عندما رفضوا إعطاء حزب الميزان ثقتهم في المدن الكبرى والجهات المهمة في المملكة، ليرتموا بكثافة في أحضان طرفي قاتلي الديمقراطية : واحد، يجسده تنظيم ينصِّب الأخلاق الدينية كنموذج سياسي، والآخر، حملته تشكيلة تعتبر الاستيلاء على السلطة السياسية دينا في حد ذاته. إن التعقل يفرض اليوم الاعتراف بأن حزب الاستقلال يتقاسم المسؤولية عن الوضع السياسي المتدهور لبلادنا والمتسم برأي عام غاضب، مُكتئب، ومرهق من ممثليه السياسيين وعرضة للخطابات الخادعة المتطرفة. نحن شركاء جماعيا في المسؤولية. لقد قيل وكتب الكثير عن أخطاء الاستراتيجية السياسية لحزب الاستقلال وعن هفوات فريقه المسير. ويصفتي مناضلا أمارس حقي وواجبي في “النقد الذاتي”، فقد ساهمت في هذا العمل بشفافية ومسؤولية. ما أقوله، أكتبه. وما أكتبه، أضع عليه توقيعي. وهذه الكتابات رهن العموم. ولا حاجة إذن للمزيد ولا داعي لتفسير معمق للإخفاقات الإعلامية، الانتخابية، السياسية والأخلاقية لحزب الاستقلال. لكن دقت ساعة التجديد واستعادة ما تم خسرانه. وإذ يجب أن يتم الاندراج اليوم في هذه الروح المتفائلة والحماسية لإعداد الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. أقترح عليكم إذن أجوبة عن ثلاثة أسئلة تبدو لي أساسية : أولا، ما هو الأساس المنطقي لوجود حزب الاستقلال ؟ ثم، ماذا عليه أن يفعل لتنظيم مستقبله ؟ وأخيرا، كيف سيقوم بذلك ؟
ما هو الأساس المنطقي لوجود حزب الاستقلال ؟
أن تكون استقلاليا، فللأمر أهمية. تبدو المسألة بديهية، ولكن لها معنى بالنسبة إليَّ ولكل المناضلين والمتعاطفين. أنا مقتنع بذلك. فليس بالأمر الهين أن تكون استقلاليا، خاصة في ظل الظروف السياسية الحالية لبلدنا. لن أفيدكم بالتعريف عن خصائص “الإستقلالي”، فهناك من هم أعلم مني (ولما يحضر الماء، يرفع التيمم)، خصوصا أمام شهود كبار في الفكر الاستقلالي، أمثال سي امحمد بوستة، سي العباس الفاسي، سي امحمد الدويري، سي عبد الكريم غلاب ومولاي امحمد الخليفة. ولكن هذا يفترض ميزة رئيسية، بغض النظر عن اختيار كل واحد ومساره السياسي أو بنائه الفكري : الرفض الغريزي أو العقلاني للخضوع والسعي الدائم والحازم من أجل الحرية. عقلاني، لأن قوانين العقلانية هي أيضا قوانين حزب الاستقلال. حازم، لأن الإصرار جزء من الحمض النووي لحزب الاستقلال. في الماضي، مكنت هذه الصفات المميزة هذه التشكيلة السياسية من الحصول على استقلال بلدنا. ثم ساعدت على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب خلال عقود، ومكنت من توطيد قيم الحداثة وكل أشكال التحرر في المجتمع المغربي. وأول هذه الأشكال، التي تتحكم في كل الأخريات، هو التحرر السياسي الذي يضمن الحقوق الفردية والجماعية. ولكن هناك أيضا التحرر من استغلال الإنسان للإنسان في الهياكل الاقتصادية، والأشكال الأخرى من التحرر، الثقافي، اللغوي والجمعوي … هذه الصفات المُميزة هي أخيرا أفضل الأسلحة السياسية لبناء مغرب الغد، مغرب يستند على دستور مجُدد، مطابق لأعلى المعايير الدولية، ومغرب ينخرط كلية في العولمة والجيوستراتيجية العالمية ليحتل مكانا بارزا في مجتمع الأمم.
ماذا على الحزب أن يفعل لتنظيم مستقبله ؟
على النخبة المثقفة لحزب الاستقلال أن تقوم بهذا النقاش الداخلي بعمق. إذا تم هذا التمرين بطريقة بناءة، برزانة واحترام متبادل لوجهات النظر المختلفة، يحدونا في ذلك التعقل، بعيدا عن التوترات، فستكون اجتماعات المجلس الوطني واللجنة التنفيذية حفلا ديمقراطيا وسيخرج منه الحزب أكثر علوا، أيا كانت القرارات المتخذة. وإن حصل العكس، سيسقط الحزب في متاهات التفاهة في نظر المغاربة. على الاستقلاليين إذن التحاور فيما بينهم بإخلاص، أن يستمع بعضهم لبعض، أن يحترم بعضهم البعض، أن يُقنع بعضهم البعض، وفي نهاية المطاف، أن يجتمعوا حول خط سياسي وفريق مسير، إن لم يكن بالإجماع، فعلى الأقل بأغلبية واسعة. يجب أن يتحلوا بواجب الحقيقة تجاه أنفسهم. يجب أن يعترفوا بالحقائق دون عدوانية ولكن بصدق وشعور بروح المسؤولية، كما هي، دون تزييفها أو تضليلها. يجب أن يضعوا كبرياءهم الشخصي جانبا ليتفرغوا جماعيا للمصلحة العليا لعائلتهم السياسية ولبلدهم. يجب عليهم أن يشهدوا بصدق بما يصلهم من القاعدة وبما يصدر عن صانعي الرأي العام في البلد. إن الموافقة الظاهرية أو الرضا المزيف قد يكونان دليلا على عدم الاحترام لقادة الحزب وإهانة لذكائهم. يجب الاعتراف بالارتباك العميق الذي يعيشه حزب الاستقلال. ويجب أن يواكب هذا الاعتراف إجراءات عاجلة. فالمشكلة ليست في الأشخاص، بقدر ما هي في الخط السياسي الذي يجب أن يعاد فيه النظر. فليس هناك اعتراض حول الكفاءات الفردية، ولكن التماسك والرؤية الإستراتيجية السياسية هو ما يخلق اضطرابا لدى الناخبين. لذلك أعتبر أن الأمين العام والفريق المسير لهذه التشكيلة السياسية قد يكبرون بتقاسمهم هذا التقييم الصارم مع المناضلين والرأي العام عن وعي، بإعادة النظر في عدة عناصر مُهيكلة للحزب. لا شك أن هذا الموقف المسؤول سيبعث نفسا جديدا في فكر وتنظيم الحزب وسيمكنه من التجدُّد، ليهيئ ظروف انبعاثه وليحضر انتصارات الانتخابات المقبلة.
كيف سيمضي قدما في ذلك ؟
السؤال الثالث، ولعله الأهم، يتعلق بطريقة العمل. إنْ تمَّ استنساخ مناهج الماضي، وخصوصا تعيين لجنة تحضيرية للمؤتمر عندما يحين الوقت، مؤلفة من مائة شخص تقريبا، فهذا من شأنه ضمان استمرارية نفس الأخطاء وبكل تأكيد، نفس النتائج غير المرضية. لذا أقترح أسلوب عمل جديد من شأنه أن يجعل حزب الاستقلال ينخرط في مسار الحداثة يرتكز على 10 إجراءات :
1- إقبار النزاعات الشخصية وتوحيد الفريق المسير الحالي، على أن يقوم الأمين العام بإشراك حساسيات جديدة في القيادة الاستراتيجية للحزب، تكون أكثر انسجاما مع تطلعات المواطنين وذات قدرات أفضل لرفع تحديات البلد.
2- تعيين فريق متخصص مُصغر، مُكون من ثُلاثي مُجدَّد من قياديين محنكين، مشهود لهم بالكفاءة والمثالية، سيُعهد إليه بوضع مخطط استعجالي لإصلاح الحزب، باقتراح البرنامج الانتخابي للانتخابات التشريعية ل2016 والتفكير في النموذج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي سيجسده الحزب بالنسبة للعقد المقبل.
3- إعادة صياغة النظام الأساسي وقانون الداخلي للحزب، في أفق المؤتمر القادم، لجعلها متلائمين مع تطلعات المواطنين، ولإرساء أسس ديمقراطية داخلية مُعزَّزة وتشجيع التعبير التعدُّدي للأفكار السياسية الصادرة عن نخب الحزب.
4 – نقل سلطة انتخاب الأمين العام من المجلس الوطني إلى المناضلين والمتعاطفين مع الحزب وإزالة كل الحواجز القانونية والتنظيمية للترشح لهذه المسؤولية، من أجل احترام المبادئ الحقيقية للديمقراطية الداخلية وتحفيز التعددية والسماح بتجدُّد النخب القيادية.
5- استشارة المناضلين والمتعاطفين عبر تنظيم انتخابات تمهيدية في دورتين، يتم من خلالها تهيئ عملية جمع الأصوات عبر الوسائل الرقمية.
6- اعتماد نظام للتصويت بالأغلبية في دورتين، حيث يُؤهل المرشحيْن الأولين الحاصليْن على أكبر عدد من الأصوات المُعبر عنها، لأن يتقدما للدور الثاني، على أساس أن يكون الانتخاب بالأغلبية المطلقة.
7- تسهيل إمكانية تبليغ برامج المرشحين إلى المنخرطين في الحزب وتنظيم حوارات داخلية.
8- القيام بتغطية وطنية ودولية واسعة النطاق عن طريق كل وسائل الإعلام السمعية البصرية، المكتوبة والرقمية للحوار الخاص بالدور الثاني ما بين المرشحيْن النهائيين.
9 – العمل على ألا يعود الحزب مكانا لتبادل الانتقادات والمواجهات العقيمة خدمة لأنانيات مفرطة الحساسية في بحث يائس عن مناصب تافهة أو محلا للشكاوى والحنين إلى الماضي، حتى وإن كان مجيدا.
10- العمل على أن يصبح حزب الاستقلال إطارا سياسيا مرجعيا لنقاشات الأفكار، للقاءات إيديولوجية وفكرية، والحوار المواطني وخصوصا، أداة رئيسية للعمل السياسي والمشاريع المستقبلية.
في الختام، إنني من أجل أن تستمر طبيعة حزب الاستقلال في الأغلبية. أتمنى أن يتولى الحزب السلطة من خلال الديمقراطية، عبر إرادة شعب سيد نفسه، يختاره عن إدراك ووعي. ولكن إن كان تولي السلطة هو المبتغى الطبيعي والشرعي لحزب الاستقلال، فهو ليس كافيا في حد ذاته لتمكين المجتمع المغربي من التحول، الذي يتطلب قبل كل شيء وعي الجماهير الشعبية والمناضلين وقادة حزب الاستقلال أنفسهم. وفي هذه الوضعية، يُشكل جمع شمل الحزب مفتاح نجاحهم ومصداقيتهم. عليهم أن يجمعوا كل تيارات الحزب، متجاوزين ذواتهم واختلافاتهم ومجموعاتهم وميولاتهم. ولا حاجة لسرد لائحة هذه التيارات التي ستكون بالضرورة ناقصة ومختزلة. هناك عدة شخصيات في حزب الاستقلال، بعضها غير معروف أحيانا حتى داخل هذه الأسرة السياسية. وهنا تكمًن كل قوة حزب الاستقلال، شريطة أن تعرف كيف تجتمع وليس أن تُحَيد بعضها البعض، أن تعرف كيف تتجدَّد وليس أن تستنسخ نفسها أو تدخل في سبات. سيكون من غير اللائق بالنسبة إلي أن أختم هذا العمود دون أن أصرح كم هو أساسي بالنسبة لحزب الاستقلال أن يعيد إلى صفوفه أعضاء جمعية “بلا هوادة”. إنهم استقلاليون مثل كل المناضلين الآخرين. على الحزب المناداة على كل المناضلين الذين ابتعدوا عنه لسبب أو لآخر. عليه إعادة نسج العلاقة مع المتعاطفين معه. عليه استعادة ثقة المغاربة. إن الأمر يستحق ذلك. إن هذا يصُب في مصلحته. هذا سبب وجوده المنطقي. هذا واجبه. إن التاريخ يراقبه. ليكن في المستوى.
محمد بنموسى
تعليقات