كما كان متوقعا عند المتابعين المنصفين، تفوق حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الجهوية والجماعية لـ 4 شتنبر، واحتل مرتبة جاءت منسجمة إلى حد كبير مع تاريخه النضالي الحافل، ومع انجازاته على مستوى التدبير سواء حكوميا أو محليا.
وبعيدا عما قيل وسيقال في التحليل المستأجَر غير المبني على معطيات واقعية، الذي يحمل مواقف سياسية أكثر من ربط بين المؤشرات وايجاد ناظم بينها يوصل إلى قراءة موضوعية تساعد على الفهم والاستيعاب والاستشراف، فإن النتائج المعلن عنها للانتخابات الجماعية والجهوية، تقول بأن المغاربة المعنيين بسؤال الإصلاح بوؤوا العدالة والتنمية المرتبة الأولى فعلا، إذا كان ضروريا اعتماد ترتيب عددي في هذه الانتخابات.
هذه الانتخابات جرت في سياق سياسي يتسم بصراع منه الظاهر ومنه الخفي، بين تيار الاصلاح الذي تولى مهمة افتكاك السياسة في المغرب من العصابات التي تستغلها في الاسترزاق، وبين تيار الاسترزاق الذي لا يتوانى في استعمال كل الاساليب والوسائل لتحقيق أهدافه، لذلك فإن مرجعية التقييم والترتيب فيها ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار هذا السياق.
المواطنون الذين انخرطوا في العملية الانتخابية متابعة للحملة وتصويتا، اقتعنوا بأن خطاب العدالة والتنمية لم يكن مجرد خطاب انتخابي يسعى الى حصد مقاعد جماعية وجهوية فحسب، وإنما تجاوزه إلى أبعاد أخرى تتعلق بمسار منهج في السياسة ومستقبل وطن، فشاركوا بكثافة في التصويت عكستها نسبة التصويت التي تجاوزت 53 في المائة، ومنحوا متزعم تيار الإصلاح حزب العدالة والتنمية أزيد من مليون ونصف من الأصوات، مكنته من تحقيق الأغلبية المطلقة التي لا يحتاج معها لأي تحالف إذا أراد ذلك، في المدن الكبرى خاصة التي اغتصبها التحكم في انتخابات 2009، وفي المدن التي سيرها خلال الولاية المنصرمة، وفي جماعات حضرية وقروية أخرى منها جماعات تقع في عمق العالم القروي.
المؤشرات الأولية تفيد بأن العدالة والتنمية سيسير ما لا يقل عن 100 جماعة ستكون أغلبها حضرية، وعدد مقدر من الجماعات القروية، وسيكون مشاركا في في تسيير جماعات أخرى لن تقل هي الأخرى عن 100 جماعة.
على مستوى الجهات، طبيعي أن يحصل حزب العدالة والتنمية على أغلبية المقاعد، بالنظر الى أن التصويت اللائحي كان دائما يحقق من خلاله الحزب المراتب الأولى، واليوم بامكانه أن يسير حوالي خمس جهات، والمشاركة في تسيير جهات أخرى، في نسخة تجريبية لتنزيل مقتضيات الجهوية المتقدمة التي ستنقل المغرب الى نمط تدبيري جديد سيقطع ولو تدريجيا مع المركزية ويحول شيئا فشيئا المغرب إلى ما يشبه فدراليات يسير المواطنون فيها شؤونهم بأنفسهم من خلال ممثلين يختارونهم بالتصويت المباشر، وهذا التحول المهم والعميق سيكون حزب العدالة والتنمية في مقدمة قيادته، وفيه مؤشرات إضافية على أن الحزب بات محورا في جملة تحولات تعرفها الدولة، مما يعزز نجاح مسار اندماجه أو ادماجه، ويكرس صوابية خيار المشاركة السياسية للحركة الاسلامية المغربية.
دعونا نعود إلى مرجعية التقييم والترتيب، لنتأمل النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع، سنجد دون حاجة إلى إطالة تفكير أن رموز تيار الاسترزاق والاغتناء من السياسة الذين اختاروا تدليسا الاختباء داخل بعض الأحزاب، لم يحصلوا على ما اعتادوا الحصول عليه من مقاعد، على الرغم من الاستعمال المكثف للمال والترهيب وغيرهما من الأساليب الانتخابية المعهودة لديهم، فالسقوط المدوي للأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط في مدينة فاس التي ظن أنها أصبحت قلعة له، وعجزه عن تأمين فوز لوائحه أو حتى منافستها للوائح العدالة والتنمية، وسقوط محمد ساجد الأمين العام لحزب الاتحاد الدستوري الذي كان عمدة للدار البيضاء أكبر وأهم مدينة، وعجز الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة مصطفى الباكوري عن مجاراة لائحة العدالة والتنمية في مدينة متوسطة كالمحمدية، وعجز حزبه عن الحفاظ على مدينة مراكش وطنجة اللتان كان يعتبرهما معقلا انتخابيا له، وفرار زعيمه إلياس العماري إلى منطقة قروية محتميا بالقبيلة والمال، والتراجع المهول للوائح الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ورموزه الانتخابية في مدن كان يراهن عليها منها كلميم وايت ملول واكادير والرباط، كل هذا يؤكد أن العدالة والتنمية خطى خطوات كبيرة على درب القضاء على مدخل من مداخل الفساد السياسي، بمعية المخلصين في بعض الأحزاب وبشرعية أصوات المواطنين.
في المحصلة، إننا إزاء تفويض ديمقراطي من طرف المغاربة لحزب العدالة والتنمية للاستمرار في مسار الإصلاح، واستجابة طوعية وواعية من طرفهم لنداء “صوتكم فرصتكم لمواصلة الإصلاح” الذي اختاره الحزب شعارا لحملته الانتخابية، وتفويض لمزيد من الجرأة في تنزيل مقتضيات تعاقد الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها لسنة 2011، القائم على محاربة الفساد والاستبداد، وفي ذلك رسالة بين السطور تفرض على العدالة والتنمية بذل ما في وسعه لتحصين هذه الإرادة وحماية الأصوات الانتخابية للمواطنين.
تعليقات