تشكل قضية الدين و السياسة قضية مؤرقة للفكر السياسي عبر التاريخ ويشكل التعاطي الإسلامي مع هذه الثنائية مثار تفكير عبر تاريخ الأدبيات السياسية الإسلامية ومساهمة في تحريك هذا التفكير نطرح في هذا العمود بعض الأفكار للمناقشة فمن خلال تأملاتنا في النص القرآني نستكشف وجود إطار نظري للبناء السياسي من خلال قراءة تركيبية لعدد كبير من النصوص القرآنية التي خلصنا إلى تصنيفها إلى قسمين رئيسيين :
القسم الأول يتضمن عدد مهم من نصوص القصص القرآني التي تحكي عن الأنظمة و السلوكيات السياسية قبل بعثة محمد عليه الصلاة و السلام كأخر الأنبياء المرسلين ونشير هنا إلى سورة يوسف و قصة موسى و فرعون و قصة سليمان ….
القسم الثاني ويتضمن نصين فقط موجهين إلى محمد أخر الرسل عليه الصلاة و السلام و إلى أمته .
فما هي معالم الإطار النظري الذي تقدمه هذه النصوص للبناء السياسي؟
إن أهم ما تجيب عنه هذه النصوص هو قضية مصادر شرعية السلطة أو قضية السيادة السياسية .فمن خلال استقراء هذه النصوص يمكننا القول أن هذه القضية مرت بمرحلتين أساسيتين :المرحلة الأولى استخلصنها من نصوص القصص القرآني وتركز على مصادر الشرعية السياسية لما قبل محمد عليه الصلاة و السلام و المرحلة الثانية نستخلصها من النصوص المتعلقة بمرحلة ما بعد محمد عليه الصلاة و السلام.
ففي المرحلة الأولى كان الله عز وجل يتدخل مباشرة كمصدر للشرعية و السيادة عبر من يصطفيهم من الأنبياء و المرسلين و يتحملون مسؤولية الملك و الوزارة وينفذون تعاليم الله في تدبير شؤون عباده انطلاقا من كون الإنسانية خلال هذه المرحلة لم تكن راشدة بما فيه الكفاية لتتحمل مسؤوليات الاستخلاف في الأرض فكان المختارون من أنبياء مثل سليمان و يوسف عليهم السلام..يستمدون شرعيتهم مباشرة من الله الذي اصطفاهم و علمهم مصالح البشر و مقتضيات عمارة الأرض و أمانة الاستخلاف و فرض على البشر إتباعهم.
أما المرحلة الثانية فقد بدأت مع التجربة المحمدية بعد أن وصلت الإنسانية إلى مرحلة من النضج و الوعي و القدرة على تحمل مسؤولية الحرية و الاستخلاف و المساواة .و خلال هذه المرحلة أنهى الله عز و جل تدخله المباشر في تدبير الشأن الإنساني و أرسل محمد عليه الصلاة و السلام كأخر الأنبياء و المرسلين و ترك الناس كل الناس متساويين إمام المحجة البيضاء ،كتاب الله يقراه الجميع متى شاء و كيفما شاء و يستبطن منه ما يشاء و صارت أمانة الاستخلاف في عنق كل البشر يدبرونها و يحاسبون عليها في الآخرة وتحول دور الدين من كونه مصدر شرعية سياسية إلى مرجعية عقائدية و فلسفية للسلوك السياسي لكن هذه المرجعية المتعالية غير المتجسدة في شخص أو مؤسسة هي مرجعية للاستنباط والاستلهام من طرف كل الأفراد و ليست مصدرا للسلطة.