من يملك الحقيقة؟ لا أحد يملك الحقيقة النهائية المطلقة. من يملك الحقيقة النسبية؟ البعض منها… وهم في شك منها، بل هم عنها عمون؟ هل الحقيقة متطورة نامية تراكمية؟ والجواب نعم مثل تراكب الفيزياء النسبية وفيزياء نيوتن؟ ومثل اكتشاف تراكب سلسلة الإنزيمات المؤثرة في تخثر الدم؟ ومثل اكتشاف عناصر أي جريمة وكمية العوامل التي تداخلت فيها؟ يقولون الوحي هو الحقيقة النهائية، ولكن الوحي كلمات وجمل. فهل النصوص تعادل الوحي؟ ولا مخرج منها إلى الفهم إلا اللغة التي نتعامل بها وننطق بها وتشكل عقولنا منذ الصغر ضمن نفق المفاهيم والزمن والثقافة السائدة؟ هل إذن لا توجد حقيقة؟ والجواب توجد حقيقة ولكن الفرق كبير بين من يدعي الامتلاك الكامل والنهائي ومعه العجرفة والعلو والتعالي وانقطاع الحوار لتوليد الحقائق بانقطاع الاتصال مع الآخرين، فيتوقف النمو فلا يتابع، ويجمد العقل فقست قلوبهم وحل عليهم القول فدمرناهم تدميراً. الفرق كبير جداً يشبه الفرق بين الميت والحي، والظل والحرور، والنار والنور، والظلمات والإشراقات، والسميع والبصير النشيط، مقابل الأصم الأعمى الكليل البليد. اختصر فيلسوف التنوير ليسنج هذه الجدلية في جملة واحدة ضارعة؛ لو أن الله وضع الحقيقة النهائية في يده اليمنى، ووضع البحث عن الحقيقة في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم قال لي اختر؟ إذا لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت بل التي في يسراك لأن الحقيقة المطلقة هي لك وحدك لا شريك لك ربي.. وعلى هذا النحو تمشي فلسفة “فولتير” في التعبير أنه سوف يدافع حتى الموت عن حق التعبير عند الآخرين، ليس لأنهم يملكون الحقيقة بل يعبرون بصدق وحقيقة عما يجول في صدورهم؟ وفي القرآن تأتي قصة ولدي آدم في سورة المائدة في ست فقرات تحكي أول نزاع وكيف يمكن فضه، وهنا يبرز اتجاهان الأول من يؤمن بالقتل، والثاني من يؤمن بالجوار والحوار والبحث عن الحقيقة فقتله فأصبح من الخاسرين. وقصص إبراهيم سيد الأنبياء كلها كانت في هذا الاتجاه؛ اتجاه السعي للاقتراب من الحقيقة، لفهم حقائق الكون والموت والصنم والله، في كل قصصه الشيقة العامرة في صفحات القرآن، في قصته كيف يحيي الله الموتى، وذلك الإنصات الخاشع لتجلي النجوم في محاولة معرفة الرب؟ فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً فقال هذا ربي؟ يروى عن إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا أنه أقام حواراً بين علماء الأزهر والوهابيين، ولما رأى أن الجدل ينتهي في نفق مسدود، قال أريد أن أسألكم سؤالا واحدا؟ كم حجم الجنة؟ قالوا عرضها السموات والأرض أعدت لهم. قال ألا يمكن أن يمنح شجرة واحدة فقط لعلماء الأزهر الشريف؟ قالوا لا.. إنها ثقافة حدية كحد السيف من الطرفين.