السكينة والهدوء .. البساطة والدروشة (ليس بالمعنى الصوفي لكن بمعنى المسالَمة) .. قيم وسمات لازمت ساكنة مدينة تيزنيت منذ زمن غير يسير، وهي بالتأكيد مواصفات تكاد تنفرد بها هذه المدينة بين أخواتها، فصارت قبلة لكل من يرغب في الاستقرار بعيدا عن الإشكالات الأمنية والتربوية، وكذلك البيئية التي تعرفها المدن الأخرى.
وقد أورثت هذه السمة لدى الساكنة انطباعا بضرورة الحفاظ على سكونها (أو بالأحرى مسكنتها) وعدم خدشها، وإن اقتضى الأمر في كثير من الأحيان، التفريط والتنازل عن أبسط الحقوق التي تكفلها كل الشرائع والقوانين.
وبما أن أجهزة الاستقبال لدى المسؤولين المتعاقبين على المدينة لا تحسن التقاط الإشارات، فقد فهموا هذه الطباع على أنها خضوع وخنوع، وقابلية لتلقي كل صنوف التهميش والازدراء إلى أبعد مدى، مقتنعين بأن التزنيتيين لن يجرؤوا على المطالبة بحقهم مهما بلغت درجة الحرمان أو الإذلال.
ونتيجة لهذا، حرمت المدينة من المؤسسات الجامعية، فصار لزاما على أبنائها التنقل إلى أكادير أو مراكش لاستكمال المشوار الدراسي، لتبدأ معاناة الأسر مع الإيواء والإطعام والتنقل …، وغيرها من صنوف المعاناة التي كان بالإمكان تجاوزها لو توفرت المدينة على نواة جامعية، وهي التي وُعِدَت بها ساكنة المدينة في أفق سنة 2010 على أبعد تقدير، ولا ندري أبالتقويم الميلادي أم الهجري.
وارتباطا بموضوع التعليم العالي، عاشت العديد من الأسر التيزنيتية هذه السنة بالخصوص إحدى أبشع الجرائم في حقها، ألا وهي حرمان فئات عريضة من أبنائها من الاستفادة من حقها في المنحة الجامعية. والمفارقة أن إقليما مجاورا، وهو إقليم سيدي إفني، وما أدراك ما سيدي إفني، استفاد جميع طلبته الجدد – كما القدامى- من المنحة بنسبة 100 %، لا لشيء سوى أنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف. فكيف ستكون قراءة المواطن التيزنيتي لهذه المفارقة؟ أليست إيحاءَ من المسؤولين إلى المواطن بأن لغة الشارع هي الوحيدة الكفيلة بتمكينهم من أبسط حقوقهم المهدورة؟
وقبل أقل من سنة، أقدم المسؤولون على التوظيف المباشر لمجموعة من الطلبة الصحراويين المجازين بمصالح وزارة الداخلية بإقليم تيزنيت، في الوقت الذي تنتظر طوابير من المجازين من أبناء الإقليم الاستفادة من حقهم في الشغل (المتوفر على الأقل)، وهم الذين امتلأت مكاتب المصالح المذكورة بطلبات توظيفهم منذ ما يقرب من عقد من الزمن، وهو الأمر الذي جعل الطلبة المتضررين من هذا التمييز ينظمون أنفسهم في إطار مجموعة المصير، التي لا زالت تواصل نضالاتها.
أما ثالثة الأتافي، فهي المحطة الحرارية لإنتاج الكهرباء بالفيول الثقيل، التي شُرع في بنائها على مقربة من المدينة، وهو ما قوبل بالرفض من قِبَل السكان في مجموعة من المدن، نظرا للآثار الصحية والبيئية الخطيرة الناتجة عنه، كانت آخرها مدينة أيت ملول، ليستقر رأي المؤسسة “العمومية” صاحبة المشروع على إنشائها بمدينة تيزنيت “المسالمة” على بعد أقل من أربع كيلومترات من التجمعات السكنية، وهي إشارة تحمل الكثير من الصلف والوقاحة. والغريب أن صاحب المشروع وعد بالتفضل على المدينة بتثنية الطريق الرابطة بينها وبين قنطرة وادي ماسة (طريق أكادير)، وما أعظمها من مِنّـة!!! يُمَنّ في سنة 2011، على المدينة بمنة تجاوزها الزمن في مثيلاتها، التي تجاوزت المدينة “السلطانية” في بنياتها التحتية، بسنوات ضوئية. فقد بدأ الحديث عن القطار الفائق السرعة TGV، وصار الكلام متجاوزا عن الطرق السيارة، والسكة الحديدة، والترامواي … بل حتى حلم الاستفادة من شبكة السكة الحديدية – مجرد الحلم– تم إجهاضه هذه السنة بقرار حكومي، لأسباب واهية.
وبالعودة إلى موضوع المحطة الحرارية، نخلص إلى أن المسؤولين لم يستوعبوا بعد السياق الذي نعيشه حاليا، وصاروا يلعبون بالنار، بإمعانهم في المزيد من حرمان هذه المدينة من البنيات التحتية والمرافق الأساسية، التي تتصدر سلم حاجيات سكانها، وتجعلهمفي مستوى نظرائهم بالمدن الأخرى، الذين ينعمون بمختلف التخصصات في مستشفياتهم وجامعاتهم.
ومن باب الإنصاف، لا بد من تحميل المواطن التيزنيتي جزءا من المسؤولية في ما آلت إليه الأمور، بسبب سلبيته، وأيضا لتمثله لقيم الاستكانة “العوجاء” بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وإن كانت هذه العقلية قد بدأت في الانقراض فعلا، اللهم إذا استثنينا بعض جيوب المقاومة، التي ما فتئت تعارض كل تحرك احتجاجي أو حقوقي، وتسفه أصحابه، وهو ما ظهر بجلاء في اللامبالاة بل والاستنكار تجاه الاحتجاجات على المشاكل التي يعانيها المواطنون بالمستشفى الإقليمي، أو تجاه الأشكال النضالية التي تبنتها مجموعة المصير للمجازين المعطلين، أو مع حراك شباب 20 فبراير، الذي يكفيه شرفا تطبيع الساكنة مع الفعل الاحتجاجي.
فهل سيشكل الحراك الاحتجاجي الدائر حاليا بالمدينة، بكل أشكاله المذكورة، بداية الانعتاق من القيم المكبلة لحركية المواطن التزنيتي؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون حراكا مناسباتيا، سيخمد بعد زوال أسبابه؟
في كل الأحوال، المدينة بحاجة إلى مواطن يتنفس عبق المواطنة الكاملة، بدلا من استنشاق السموم التي تبشرنا بها المحطة الحرارية لإنتاج الكهرباء بالفيول الثقيل.
العربي إمسلو
تيزنيت