ذ. خــالـد ديـــن*
لقد كانت الأخلاق و لا زالت أهم ما يميز الانسان و يسمو به عن تجاذبات الأهواء و يحرره من قيود الغريزة, فالقيم المثلى و الالتزام بالواجب و الوقوف عند الظوابط الأخلاقية مبادئ كونية تراهن عليها كل المجتمعات من أجل تخليق الحياة الخاصة و العامة, و السياسة مكون أساس في هذه المنظومة و لا ريب.
ان منظر النائب البرلماني المنشغل بلعبة الورق أثناء مناقشة شؤون الأمة مثير للامتعاض, كما أن سيناريو اعطاء أحد ٌ النواب الأحرارٌ رسالة لأمين ٌالاستقلاليين الجددٌ خلال برنامج حواري مباشر يطرح أكثر من تساؤل حول أخلاق السياسة و سياسة الأخلاق بمغربنا الحبيب.كل هذا أوجب علينا اعادة مساءلة العمل السياسي و مدى انظباطه لمقومات القيادة الأخلاقية عموما.
قد يقول قائل أن فصل الأخلاق عن السياسة أمر حتمي لأن طبيعة العمل السياسي تقتضي التقاء المصالح, هذه المصالح التي لا تعترف بعدو دائم و لا حليف قائم, بل تتأسس على فكر ميكيافيلي تبرر الغاية فيه وسيلتها.
لقد تناسى دعاة هذه الحتمية أنه اذا كان بناء تقاطبات سياسية مرحلية و ان بمرجعيات غير متقاربة في سياق انتقالي أمر وارد, فان تغييب الضمير الأخلاقي في عالم السياسة جر العالم بأسره الى أزمات انسانية مهدت لممارسات لا انسانية استأسد فيها القوي على الضعيف و ساد فيها فساد و افساد أوقف عجلة التطور و التنمية في غياب الوازع القيمي و الالتزام بالمسؤولية.لقد تناسى هؤلاء أن الاستهتار بالأمانة فيه تبخيس للعمل السياسي أصلا و تيئيس للمواطن فعلا من جدوى الانخراط في الاصلاح و المشاركة في التدبير و الانفتاح على المؤسسات.
أكيد أن الآثار السلبية لهكذا ممارسات ستبقى مترسخة في الوعي الجمعي و السياسي للأجيال القادمة, هذا الوعي الذي ينبع من طبيعة الخبرات و المواقف التي خضع لها الأفراد أثناء مراحل التشكل و التكوين السياسيين, و ستكون لها لا محالة آثار تظهر في ممارسات الأجيال السياسية القيادية المتعاقبة.
ان الكفاءات القيادية في عالم السياسة يجب أن تبنى على مبدأ القدوة و الركن الأساس في هذا المبدأ هو ركيزة القيم. و اذا كانت الدول تخسر الملايين بسبب الأزمات الاقتصادية, فان خسائرها تتجاوز البلايين بسبب الممارسات اللأخلاقية. فالأزمات القطاعية ممكنة التجاوز في حين أن أعطاب الضمير و الاستهتار بالأخلاق و تغييب الرادع القانوني تبقى أمراضا مزمنة وجبت الوقاية منها قبل البحث عن سبل العلاج.
لقد بينت احدى الدراسات الدولية التي أجريت سنة 2010 أن أهم خمس صفات يحبذها المواطن في مرشحي الأحزاب السياسية هي المصداقية ثم الرؤية و التحفيز فالكفاءة و أخيرا الذكاء. و اذا كانت الرؤية و التحفيز و الكفاءة و الذكاء مطلوبة في السياسي الأخلاقي, فان رأس هذه المواصفات و جوهرها هي صفة المصداقية. و من هنا وجب على الأحزاب السياسية بكافة تلاوينها أن تنتقي من ترشحهم لتمثيل الأمة و قيادة الوطن, بل و من أوجب الواجبات على كل الهيئات السياسية أن تعمل على بناء القائد الأخلاقي بناءا يستهدف تفكيره و عواطفه و قناعاته و مهاراته و مقاصده حتى تتماشى هذه المرتكزات الخمس و الواجب الأخلاقي.
جاء الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الحالية ليضع الأصبع على مكمن الداء و ليعجل بضرورة ارساء ميثاق شرف أخلاقي لتأطير العمل البرلماني في شموليته, بعيدا عن المزايدات المجانية و خدمة لمصالح البلاد و العباد. و لربما لم ينتبه بعض برلمانيينا و مستشارينا الى أن لغة الخطاب كانت مكثفة و أبعاده موحية, فتركيزه على ٌ مدونة أخلاقية ذات بعد قانوني تقوم على ترسيخ قيم الوطنية وايثار الصالح العام و المسؤولية و النزاهة والالتزام … ليكون البرلمان مدرسة للنخب السياسية بامتياز و فضاءا أكثر مصداقية و جاذبية ٌ لم يأت هكذا عبثا في اطار ظرفية انتقالية و تأسيسية لما بعدها, بل جاء ليصحح هفوات من قبيل ما أثرناه من قبل و كذا من قبيل ما أثاره بعض المستشارين في جلسة المساءلة الشهرية لرئيس الحكومة عندما تمت محاولة الربط تلميحا و تصريحا بين الأوضاع في مصر المحروسة و ما تعرفه المملكة الشريفة من تحولات سياسية متميزة و في تطاول صريح على بعض الوزراء ابتدأت ارهاصاته بمجلس النواب مما أثار حفيظة رئيس الحكومة ليرد بالواضح لا بالمرموز, و لو كان آثر الصمت فسيكون سكوته علامة على الرضى. كما أن ما وقع خلال مداولات لجنة العدل و التشريع بالغرفة الأولى و الاتهامات الخطيرة التي كيلت لشخصيات وطنية من طرف نائبة برلمانية من المعارضة كان من المفروض أن تكون أكثر ًحكمةً ً لا يخدم المصالح العليا للوطن في شيء.
نتمنى صادقين أن يكون البرلمان المغربي مجالا لاستشراف الآفاق و تجديد القناعات و تخليق التوجهات و تقويم التصورات و السلوكات و بناء الاستراتيجيات, لا مجالا للسجالات و اثارة النعرات حتى لا يفقد صدقيته و مصداقيته في سياق أراد من خلاله الجميع اعادة تأهيل الحقل السياسي كليا و في اطار ديموقراطية تمثيلية و تشاركية ينخرط فيها الكل بوعي و مسؤولية و التزام … فرب سامع أوعى من مبلغ.
أستاذ اللغة الانجليزية بالثانوي التأهيلي*