ذ. خــالد ديـــن*
” الإنسان مدني بالطبع ” , هذا ما أكد عليه ابن خلدون مؤسس علم العمران. فظاهرة الاجتماع ضرورية لبني البشر حتى يكمل بعضهم بعضا في رحلة بحثهم عن حاجاتهم الأساسية لبقاء النوع البشري و تطوره. و لعل أهم وحدة بشرية تجسد هذا الاجتماع و تحقق مسعاه في حياتنا المعاصرة هي المدينة.
مناسبة هذا الكلام هو الدور الأساس الذي ستلعبه المدينة و سياساتها في إطار جهوية متقدمة نص عليها الدستور, مرتكزا في فصول عديدة أيضا على ضرورة تأمين ” مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم و الرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة و المستدامة ” ( الفصل 136 ).
فما هي إذن الصورة التي يريد السكان المعنيون رسمها لمدينة كتزنيت في هذا الإطار؟ بل و ما هي السياسة الحضرية التي نريد تحديد معالمها لكل مدن مغربنا الحبيب؟ أكيد أن المجال هنا لا يسمح بالإغراق في جزئيات التفاصيل – و ليس هذا هدفي في هذا المقام – و لكن حسبنا أن نعطي إشارات دالة و عناوين كبرى لكل مدن المغرب, و تزنيت واحدة بين أخواتها.
مسلم به أن المدينة كيفما كان موقعها الجغرافي لا تقوم أبدا على عدد السكان و اتساع الرقعة و حسب, بل تتأسس أيضا على معايير الخصوصية و جودة الخدمات و جمالية المعالم. فالمدينة كائن يتفاعل و هوية تؤثر و تتأثر بمرور الأزمنة و تعاقب الساكنة. إن ما نراه اليوم في مدننا لشيء يحز في النفس, تراكم للنفايات و عمران غير منظم وأحزمة للفقر و الهشاشة ومضاربة في العقار و انتشار للجريمة و بنايات آيلة للسقوط وخدمات صحية في حاجة للعلاج وفعل ثقافي محتشم وانهيار للأخلاق و القيم و غيرها من الإشكالات الناتجة عن انعدام للحكامة في التدبير واعتماد سياسة تنميط للمدن جعل جلها يكاد يكون صورة طبق الأصل لبعضها البعض شكلا و مضمونا. فالزائر لمدننا يحس في كثير من القطاعات بانعدام للرؤية المجالية المتسقة في التسيير وانتهاج سياسة ترقيع في التعاطي مع الاكراهات, مع ازدواجية في الهوية تضيع معها كل معالم التميز و التمايز.
إن أحوج ما تحتاجه مدننا اليوم هو تعميم بصمة إصلاحية مغربية على مجالها, فأشكالها الهندسية و لمساتها المعمارية و ساحاتها و حدائقها و مرافقها يجب أن تستمد عمقها من روح حضارتنا الأمازيغية العربية الإسلامية على أن تقدم للمواطن في إطار سياسة خدماتية و تدبيرية مواطنة و مندمجة في غير انغلاق. ذلك أن استيراد الخطط المبدعة يبقى واردا بما يخدم المدينة المغربية مبنى و معنى و يحفظ لها – في نفس الآن – شخصيتها و خصوصيتها.
و لكي نرفرف عاليا في هذه الآفاق سيكون من الواجب على الجميع مواطنين و منتخبين و رجال إدارة ترابية أن ينخرط في هذا الورش الوطني و أن يتعاون على إعادة تأهيل حواضرنا, فالمدينة ليست مزرعة خاصة لأحد: إنها ملك لهذا الوطن. إن مدننا مرآة عاكسة لمجتمعنا بآلامه و آماله و مختصر مفيد لحضارتنا الضاربة جذورها عميقا في تربة التاريخ, لذلك وجب علينا – ونحن نرسم سياستها – أن نعمل على أنسنتها بدل ‘أسمنتها’ حتى لا تصبح كائنات إسمنتية فوضوية تنبني على عبث بالجغرافيا و التاريخ.
لقد صرح وزير السكنى و التعمير و سياسة المدينة بأن المدن المغربية لا تمثل سوى 2 في المائة من مساحة التراب الوطني في حين أنها تستوعب 65 في المائة من السكان و تنتج حوالي 75 في المائة من الناتج الداخلي الخام. غير أن هذه المدن تقف شاهدة على معاناة 3 ملايين نسمة من الهشاشة و تكدس 13 في المائة منهم في مساكن غير لائقة تماما مما يضع تحديات جمة على طريق التمدن بالمغرب. و من هذا المنطلق وجب طرح حزمة من التساؤلات تروم خلق منصة انطلاق لأي تخطيط استراتيجي يستهدف المدينة و سياستها :
– فهل كل تجمع سكاني يستحق أن يحمل صفة ٌ مدينة ٌ ؟
– و كيف يمكن للمراكز الحضرية أن تحقق التطور في ظل تماسك اجتماعي و اندماج مجالي بين مختلف القطاعات ؟
– و ما علاقة المدينة بخلق الثروة و إحقاق العدالة و التنمية ؟
– و ما الرابط بين المجال الحضري و امتداداته في الضواحي و القرى المجاورة ؟
– و كيف لنا أن نوازن بين اكراهات النمو الحضري و مستلزمات التنمية المستدامة ؟
– وهل نجح المغرب فعلا في خلق ‘ مدينته الفاضلة ‘ ؟
أكيد أنه ستكون لنا عودة لطرق أبواب هذه الإشكالات, فمراكزنا الحضرية في حاجة لأن تتماسك اجتماعيا وتزدهر اقتصاديا و تتأهل سياسيا وتنتعش ثقافيا.أقول هذا الكلام أخيرا حتى تنمو تزنيت و تتطور محافظة على بصمتها الأمازيغية و مراكش على بهجتها الأطلسية و تطوان على روحها الأندلسية وطاطا على طيبوبة أهلها الأبدية…. حتى نربح مدنا متنوعة و منفتحة بشخصية مغربية مندمجة تتكامل مقوماتها دون أن تتنافر, فقوة المغرب كانت و ستبقى أبدا في الاستثمار الأمثل لتنوعه الخلاق.
أستاذ اللغة الانجليزية بالثانوي التأهيلي*