ذ.خــالـد ديــــــــن*
تعد إشكالية التخطيط التربوي واحدة من أشد الاكراهات التي كانت و ما تزال تواجه المجتمع المغربي لعقود. فلا أحد ينكر أن مصير المغرب في ظل هذه العولمة الجارفة و الثورة الرقمية الكاسحة و الهوة المعرفية العميقة هو مصير مرتبط بمدى نجاعة نظامنا التربوي و فعالية إستراتيجيتنا التكوينية لإعداد المواطن المغربي و تأهيله من أجل مواكبة التغيير.
و إذا كانت الرؤية المستدامة تسائل كل ما هو سياسي و اقتصادي و بيئي, فان حجر الزاوية في تطوير مغرب اليوم هو إعادة بناء الإنسان معرفيا و قيميا إيمانا قطعيا منا بأنه لا تثوير بدون تنوير, و من هنا تكمن حيوية واحد من أكثر القطاعات إستراتيجية في الدولة و المتمثل أساسا في قطاع التربية و التعليم.
فبعد أفول نجم الميثاق الوطني للتربية و التكوين و فشل جل المخططات التي استهدفت إصلاح أعطاب المدرسة المغربية كان آخر حلقاتها المخطط الاستعجالي بما له و ما عليه, و بعد تواري شعارات تربوية رنانة بات سؤال التخطيط النوعي و الحكامة التربوية يفرضان نفسيهما بكل إلحاح. ذلك أن أي مخطط إصلاحي يروم تأهيل المجتمع اقتصاديا و سياسيا سيبوء لا محالة بالفشل إذا كانت بنية الاستقـبـال – أي المواطن – تعاني من الأمية المركبة و الهشاشة الأخلاقية, فلكي تحيا الدولة كمؤسسات و يحيا المجتمع كبنية واجب أن يحيا الإنسان, يحيا ككائن أخلاقي متنور و واعي بذاته وبمجريات الأمور من حوله.
إن طرح هذه الإشكالات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصب في مقصديته , أي في اتجاه تكريس مفهوم المدرسة المغربية العمومية الحديثة, إلا إذا كان مشروعنا الإصلاحي ينبني على رؤية مجالية و مندمجة. ذلك أن قطاع التربية و التكوين لا يحتمل الاستعجال و الترقيع, بل يؤسس على مخططات متوسطة و بعيدة المدى تستحضر الإصلاح في شموليته. و من هنا وجب استحضار حزمة من المداخل العامة للاصلاح نجملها كالآتــي:
1. مدرسة الأخلاق قبل مدرسة النجاح: التعليم قضية أمة لا قضية وزارة, لذا وجب إحداث مقاربة تشاركية بين الأسرة والمدرسة و المجتمع المدني والإعلام لبناء منظومة قيمية و تربوية تحارب الهدر الأخلاقي أولا ثم المدرسي ثانيا.
2. تأهيل الإدارة التربوية و خلق مسالك و مراكز خاصة بتقنيات التسيير و التدبير الإداري التربوي.
3. ضرورة إعادة النظر في تنظيم و تصريف الوعاء الزمني: فعدد الساعات التي يقضيها التلميذ المغربي في المدرسة تعد من بين الأطول عالميا.
4. إعادة النظر في دور الإعلام و التوجيه التربوي ( دمقرطة التوجيه بإنشاء شباك وحيد, تنشيط التوجيه المبكر, استبعاد الكوطا و إعادة النظر في مفهوم الخريطة المدرسية, فتح آفاق التكوينات المهنية…)
5. وضع برنامج سنوي لتكوين مستمر للأساتذة يربط فعليا التأطير النظري بالممارسة العملية.
6. تعزيز الحكامة في التدبير و التسيير مع منح الأكاديميات و النيابات و المؤسسات مزيدا من الاختصاصات في إطار لامركزية متقدمة, مع ربط المسؤولية بالمحاسبة.
7. تأهيل البنية التحتية للمؤسسات التعليمية و إعادة النظر جملة و تفصيلا في الفضاء المدرسي و بنية الأقسام مع عصرنة الوسائل البيداغوجية.
8. إعادة النظر في معايير اختيار و طرائق تكوين أساتذة التعليم الابتدائي, فلا بناء تربوي صلب بدون أساس متين.
9. المؤسسات التعليمية في حاجة ماسة إلى إحداث مراكز للإنصات من تأطيرمساعدين في المجال الصحي النفسي.
10. وضع المتمدرسين في إطار علاقة تربوية- قانونية مع المدرسة تناقش بنودها بمعية جمعيات آباء و أولياء التلاميذ و التلميذات.
11. إلزامية تقنين قطاع التعليم الخصوصي و ظبطه في إطار تعاقدي و تشاركي و تكاملي مع التعليم العمومي.
12. التفكير في تنويع مجالات التخصص داخل المدرسة المغربية مما يتماشى و اختلاف الذكاءات.
13. تشجيع البحث و التميز بالنسبة للأساتذة مع تقليص ساعات العمل من أجل القيام ببحوث و دراسات تكون جزءا من برنامج تكوينهم المستمر تشتغل عليها لجن تقنية و تضمن في إصدارات خاصة بالأكاديميات.
14. تفعيل دور و أهداف و طرائق اشتغال الإشراف التربوي للتفتيشيات.
15. العمل على خلق خلايا داخل الأكاديميات و النيابات لتفعيل تشاور و تنسيق فعلي و مستدام مع الفاعلين الميدانيين في القطاع.
16. ايلاء مزيد من الاهتمام الخاص للأطر العاملة في العالم القروي و تحفيزها على العطاء , خاصة العاملين بالفرعيات الجبلية والنائية.
17. الالتزام بإجبارية التعليم الأساسي مع وضع قوانين زجرية للمخالفين و أخرى داعمة للمحتاجين.
18. جعل حصص الأنشطة الداعمة و الموازية جزءا من المقررات لا أنشطة هامشية.
19. ضرورة العودة لنظام التفويج خاصة بالنسبة للغات الأجنبية و المواد العلمية.
20. تفعيل التخصصات انطلاقا من الثانوي التأهيلي و التركيز على المواد الخاصة بكل مسلك أوشعبة.
21. ربط التحفيز و الترقي بالعطاء و الانضباط و العمل على تنقية القطاع بكل مستوياته من الأطراف التي تسيء إليه أداءا و أخلاقا.
22. النهوض بالخدمات الاجتماعية لنساء و رجال التعليم و الرفع من مستواها و محتواها على غرار قطاعات أخرى.
23. إعادة النظر في معايير إجراء الحركة الانتقالية و دمقرطتها.
24. مراجعة شاملة لكل ما يتعلق بفروض المراقبة المستمرة و كذا معاملات المواد و طرائق التقويم عموما.
25 مأسسة الحوار الاجتماعي في إطار تعاقدي مع الشركاء الاجتماعيين مع تأسيس ميثاق أخلاقي للحقوق و الواجبات.
26. إعادة المكانة الاعتبارية و الاجتماعية لرجال و نساء التعليم من الناحية المعنوية و الثمتل المجتمعي ( قبل أن تكون مادية).
27. البدء في إصلاح جذري للمقررات و المناهج بما يشجع الفكر التحليلي- النقدي و ذلك بتغليب الجودة على حساب الكم مع إعطاء معنى و غائية للتعلمات عن طريق الجمع بين ما هو معرفي و سلوكي و مهاراتي.
28. التأسيس لتعليم مواطن يعتمد مقاربة مغربية للتربية و التكوين تستعين بالتجارب الأجنبية من باب الاستئناس لا العكس و ذلك من أجل إنتاج مقاربات مغربية لقضايا التعليم.
29. إحداث أقسام خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة بكل أصنافهم مع تسهيل الولوجيات لضمان اندماجهم في النسيج المجتمعي.
30. إعادة النظر في جدوى الامتحانات الجهوية بالثانوي التأهيلي.
31. من واجبنا التأكيد و بالبند العريض على أن الاكتظاظ عائق رئيسي في إفشال أي مخطط إصلاحي كيفما كانت جرأته.
32. العمل على تعزيز المراقبة الأمنية في محيط المؤسسات التعليمية و الطرق المؤدية إليها مع الاستعانة بوسائل المراقبة البشرية و التقنية.
33. وجوب التكامل بين القطاع المدرسي و الجامعي في رؤية أكاديمية متكاملة و مندمجة تؤسس لمخطط تربوي بمثابة رؤية إستراتيجية لمنظومتنا التربوية ككل.
34. دسترة المجلس الأعلى للتعليم تعني لزوما الابتعاد عن أي مزايدات أو مقاربات سياسية للقطاع.
35. حل إشكالية الاختيارات اللغوية و لغات التدريس و علاقتها بالتعليم الجامعي.
36. تبني المتمدرسين الموهوبين العمل على صقل مواهبهم و تدعيمهم.
إن الحديث عن المدرسة المغربية حديث ذو شجون و لا ريب, و من تم جاءت هذه المداخل في عموميتها و تداخلها لتلامس بعضا من فيض. فالخوض في كل اقتراح على حدة يحتاج لوحده صفحات ممتدة من البحث و التحليل والاستنتاج لطرح البدائل و اقتراح حلول واقعية و موضوعية. و إذا كنا مطالبين جميعا, كل من موقع مسؤوليته, بتفعيل أمثل لروح الدستور و انخراط فعال في جهوية متقدمة, و إذا كانت الدولة تسعى حثيثا لضمان أمن مواطنيها الغذائي و الروحي و العسكري, فان أولى الأولويات هو ضمان أمننا الأخلاقي و المعرفي و الهوياتي.
و إلا فكيف لنا أن نفسر تراجع المغرب في مجال التنمية إلى الرتبة 129 من أصل 134 بلدا ( رغم أن لغة الأرقام تدخل ضمن المتحول لا التابث ), و كيف لنا أن نؤول احتلال المغرب للمرتبة 125 عالميا في مجال الأمية التي أصبحت عندنا مستدامة و كيف لنا أن نبرر وجود حوالي 850 ألف طفل و طفلة خارج أسوار المدارس, بل و كيف لنا أن نقنع حوالي 49.5 في المائة من شبابنا بجدوى العمل السياسي في تدبير حياتنا اليومية. لقد كشفت دراسة أقيمت حول إعداد الأجيال الناشئة لمجتمع المعرفة سنة 2011 أن 8.2 في المائة فقط من تلاميذ الثانوي التأهيلي بالمغرب هم الذين يتوفرون على المهارات المعرفية الضرورية لمواصلة التعلم, كما أبرزت اختلالات عميقة بل و قاتمة حول القدرات الكتابية و مهارات حل المشكلات و القدرة على معالجة المعلومات و التعامل مع الوضعيات و استخدام التقانة مما اعتبر انتكاسة تهدد فعلا الأمن المعرفي للمغرب.
و يبقى القول أخيرا أن المدرسة المغربية لم تصل حد الموت السريري, غير أن الأعطاب نخرت بنيانها. فالمغرب يقف عند عتبة إصلاحات جذرية من شأنها أن تفسح المجال واسعا أمام إرساء منظومة تعليمية أكثر حكامة و جودة, و أن تلتفت إلى كل مداخل الإصلاح و تروم تغييرا عميقا في العقليات الفاعلة في ميدان التربية و التكوين لتستهدف إعادة التأسيس لبناء مفاهيمي تربوي خلاق يرقى بالمجتمع و يسمو بالمواطن ككائن معرفي و أخلاقي بامتياز حتى نحيا كراما في وطننا… فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
* أستاذ اللغة الانجليزية بالثانوي التأهيلي.