يرى عالم الاقتصاد أنغيس ديتون، الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد للعام 2015، في هذا الحوار، أن مراكمة أقلية صغيرة من المجتمع للثروات الطائلة بطرق ملتوية، كالضغط على الحكومات ومراكمة الامتيازات وتحقيق مصالحها الخاصة، يهدد الديمقراطية ويقوض النمو ويفقر الطبقات المتوسطة، منتجا واقعا يقود أفراد هذه الطبقات، بفعل الضغط واليأس والألم، إلى مآلات صعبة كالإدمان أو الاكتئاب أو الانتحار..
كان المؤرخ السياسي الفرنسي ألكسيس دو طوكفيل يرى أن الفرنسيين “يحبون المساواة” عكس ما يبدو عليه الحال في أمريكا..
من الواضح أننا لا نتقاسم مع الفرنسيين هذا الحب. كنت مؤخرا في ندوة شارك فيها العضو المرموق بمجلس الشيوخ الأمريكي غراهام بيل. كنت أتحدث عن مشكلة اللامساواة حين تدخل معترضا على كلامي بالقول “إن العدالة تقتضي اللامساواة”. أختلف مع هذا الطرح طبعا، لكني أرصد لدى الأشخاص المحسوبين على اليمين في الولايات المتحدة قناعة بأنه لابد من ترك الناس أحرارا في استثمار مواهبهم، حتى ولو أنتج ذلك فوارق صارخة. وكأن شعارهم هو “الحرية والأخوة والفوارق”!
رغم ذلك فقضية تنامي الفوارق بين طبقات المجتمع في الولايات المتحدة توجد في قلب النقاش العام..
وجود الفوارق، كما يؤكد ذلك فلاسفة كثر، ليس سيئا في حد ذاته. لا توجد حجج تبرهن على أني سأتضرر إذا ما راكم الآخر مزيدا من المال، إلا في حال استعمل ذلك الآخر ماله للتأثير في مصيري. هذا الاستثناء هو الحجة الأساسية. وهي حجة قوية بالنظر إلى أن الفوارق تخلف أضرارا بالفعل. فلابد من التساؤل حول السبب الذي يجعل أعدادا كثيرة من الناس تساند الملياردير دونالد ترامب، الذي لا يتوقف عن التبجح بثرائه، ويعتبر تجسيدا واقعيا لفكرة اللامساواة ذاتها. الجواب يكمن في أن ما يزعج الناس حقيقة ليس هو تحقيق الثراء، وإنما استعمال طرق ملتوية ووسائل ضغط ولوبيات وأساليب ريعية من أجل التأثير على السلطة ومراكمة الامتيازات. وهي ممارسات سلبيه تقلص النمو والمداخيل. وإلى اليوم لازال الأمريكيون غاضبين من أصحاب البنوك الذين تسببوا في الأزمة المالية.
هل يمكن إذن اعتبار التصويت لصالح ترامب تصويتا ضد الواحد في المائة الأكثر ثراء؟
إنه تصويت ضد النخب التي يعتبر الناخبون أنها تغتني على حسابهم. تلك النخب التي تساند العولمة والهجرة ولا تلقي بالا للناخبين. دونالد ترامب يعد بأن يكسر هذه الصورة. وهو وعد بلا معنى بما أن ترامب هو أكبر مثال على الباحثين عن الريع، لكن الناس لا تعرف هذا. كان الديمقراطيون يمثلون العمال ويتحالفون مع النقابات لكن الأمور تغيرت منذ 20 أو 30 سنة. فقد احتاج الديمقراطيون لتعبئة الأموال من أجل حملاتهم الانتخابية، ما جعلهم يتقربون من أصحاب الأموال. أمام هذا الواقع، يمكن تبني إحدى مقاربتين حسب توجه كل تيار. إذا كنت يساري التوجه ستدافع من أجل أن التقنين الصارم لتمويل الحملات الانتخابية، وإذا كنت يميني التوجه ستعتبر أن الوسيلة الوحيدة لمواجهة تأثير المال هي تقليص حجم الحكومة التي تمنح بطبيعتها امتيازات عديدة.
ما رأيك أنت؟
أميل أكثر لفكرة تقليص السلطة، لكن هذا الرأي يؤدي إلى التخلي عن القضايا الاجتماعية، كالمسائل المتعلقة بالتقاعد والنظام الصحي.. أي كل ما يجعل من بلد ما متحضرا.
هناك تخوف في فرنسا من ظاهرة “تقهقر” الطبقات المتوسطة إلى أسفل الهرم الاجتماعي، الآباء يشعرون أن أبناءهم سيعيشون حياة أصعب مقارنة معهم.. هل هذا التخوف تحول إلى واقع في الولايات المتحدة؟
صحيح. نسجل تراجعا في الدخل النسبي للطبقات المتوسطة. المشكل يتمثل في أن الناس الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي يصعب تعويضهم: تحتاج إليهم لتلبية طلباتك في المطعم، أو داخل بعض المتاجر… لكن الناس الذين يصنفون ضمن الطبقات المتوسطة يشغلون وظائف يمكن تعويضها عن طريق ترحيلها للخارج: إنهم الأكثر هشاشة أمام واقع العولمة.
هل هذا “التقهقر الطبقي” هو السبب في ما تتحدثون عنه في كتابكم من ارتفاع حالات الانتحار، وإدمان الكحول، واستهلاك الأدوية والمخدرات، وحالات الاكتئاب المسجلة لدى النساء والرجال البيض الذين تتراوح أعمارهم ما بين 45 و50 سنة؟
إنها ظاهرة أمريكية بامتياز لا نصادفها في أوربا. معدل الوفيات لدى هذه الفئة يتزايد لأسباب عديدة، منها سبب مباشر: الانتشار المهول للوصفات الطبية المضادة للآلام التي ليست في حقيقة الأمر سوى مخدر هيروين في شكل عقاقير. هذه العقاقير الأفيونية، مثل “أوكسيكونتين”، لا توصف إلا للبيض لأسباب جديرة بالبحث. وقد أغرقت الشركات الصيدلية السوق بهذه الأدوية مما جعلها تتعرض لعقوبات.
في الماضي كان بإمكان الأمريكيين الذين لم يكملوا تعليمهم العالي إيجاد عمل في معمل، أو صناعة الأثاث، والاستفادة من عوائد ثمار النمو عليهم وعلى أبنائهم، وإعداد تقاعد مريح. هذا الواقع انتهى. تجد اليوم مهندسين يعملون لدى شركة “إي بي إم” يبيعون الأكلات السريعة، وبالتالي فلا عجب في كونهم يعانون من آلام الظهر، ويزورون الأطباء، ويتناولون عقاقير ثم يدمنونها. على الأقل هذا هو التفسير الملموس، الذي يتبناه اليسار، والذي سيدافع عنه جوزيف ستيغليتس (حاصل بدوره على نوبل في الاقتصاد) وهيلاري كلينتون. وإلى جانب هذا التفسير، هناك أيضر تفسير اليمين لما يقع في المجتمع الأمريكي. في هذا الإطار، يرى تشارلز موراي أن المجتمع الأمريكي يعاني من تراجع “القيم المؤسسة” (الزواج، الصدق، التدين، حب العمل) داخل المجتمع الأبيض.
وهناك نقاش كبير مطروح اليوم في أمريكا حول معدل النشاط (الذي تهاوى منذ الأزمة المالية لـ2008). كثير من الأشخاص ليسوا معطلين، لكنهم توقفوا عن البحث عن عمل. ونلاحظ اليوم أن الناس أقل سعادة مما كانوا عليه في 2008 رغم أن معدل البطالة كان أكبر.
كيف تفسرون تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي؟
العامل المشترك هو أن الناس يشعرون بأن الحكومة لا تنصت لهم، وبصفة أكبر بروكسيل. كما أن هناك قضايا تتعلق بالهجرة، رغم أنه من الواضح أن قضيتي الهجرة والعولمة ليستا سوى علتين واهيتين في بريطانيا كما أمريكا. الأمريكيون الذين تحدثنا عنهم مهددون باختراق الآلات للوظائف أكثر مما هم مهددون بالعولمة.
ترون أن الأثرياء لا يتركون أي فرصة لبقية المجتمع في الترقي الاجتماعي…
أقول إنه تهديد محدق. لم نصل بعد لهذا الحد. بالنسبة للولايات المتحدة، أتحدث عن مصالح تتحكم في الكونغرس، لكنها لا تنطبق على الانتخابات الرئاسية مثلا. في الانتخابات السابقة كان الأثرياء يساندون ميت رومني، لكنهم خسروا.
ما يمكنني تأكيده هو أن الحلول التقنية لن تكون كافية لحل المشاكل التي تطرقنا إليها (الفوارق الاجتماعية). فهذه المشاكل ليست اقتصادية صرفة، بل لديها بعد سياسي يجب الانكباب على حله. لدينا ديمقراطية، علينا إذن أن نجعلها تعمل.
كثير من الخبراء والمفكرين بدؤوا يحذرون من أن مراكمة الثروات تهدد النمو والديمقراطية.. هل يمكن أن نتحدث عن بداية تشكل وعي بهذه المسألة؟
تقدم كبير بذل في هذا الاتجاه، لاسيما في الولايات المتحدة. في ما قبل، لم يكن هناك وجود لأي نقاش حول الفوارق، كان اليسار يثير الموضوع لكن سرعان ما يتهم من طرف اليمين بأنه يسعى لافتعال صراع بين طبقات المجتمع. الأمر تغير اليوم. وأعتبر أن المقال الذي نشره طوماس بيكيتي وإيمانويل ساز سنة 2003 لعب دورا مهما في هذا المجال. فقد كشفا استنادا لمعطيات دقيقة لم ينتبه لها أحد من قبل، حقيقة وواقع النخب فاحشة الثراء. ثم جاءت أزمة 2008 لتزيد حجم الاهتمام بالموضوع: فقد صدم الرأي العام الأمريكي وهو يرى كيف أن المسؤولين عن ذلك الانهيار المالي، أي أصحاب الأنباك، الذين أنقذتهم الدولة، يواصلون جني أجور فلكية.
عن لوبس
تعليقات