أن يتحول مناضلوا العدالة والتنمية إلى وزراء دولة يعتبر نجاحا خاصا لزعيم الحزب عبد الإله بنكيران، الأمر الذي يتطلب من الباحثين إجراء دراسات وأبحاث عن أسباب نجاح بنكيران في قيادة حزب العدالة والتنمية نحو رئاسة الحكومة، ومن أهم أسباب النجاح هذه خطابه السياسي ..
عند دراسة الخطاب السياسي للزعماء والقادة غالبا ما يتم التركيز على الجانب البلاغي للخطاب السياسي، نظرا لما تحمله البلاغة من تأثير على المتلقي، غير أن الخطاب السياسي يتعدى ماله علاقة بالشكل إلى المضمون الموجه للمتلقي قصد التأثير فيه وإقناعه بمحتوى الخطاب عن طريق الشرح والتحليل والإثارة ويتضمن هذا المضمون أفكارًا سياسيةً، والغرض من الخطاب السياسي تغيير النفوس والعقول والأفكار والواقع كما يحدد ذلك علماء اللسانيات، لذلك كان لابد أن نتتبع مرتكزات الخطاب عند بنكيران في مستوياتها المختلفة، من أجل فهم الظاهرة البنكيرانية والذي يعد من بين الشخصيات المغربية القليلة التي استطاعت التأثير في الجماهير باستعمال لغة الخطاب …
1 ـ على مستوى الشكل:
ـ خطاب تجديدي:
يمكن اعتبار الخطاب السياسي لبنكيران خطابا تجديديا بامتياز داخل الوسط الاسلامي، حيث استطاع تجاوز تلك العقبة الكأداء التي لازمت خطاب الحركة الاسلامية، أنه خطاب فئوي خطاب موجه للنخبة فقط، في مقابل ذلك يوجه بنكيران خطابه للعامة، حتى وإن كان ذلك سيؤدي به إلى التضحية بفئة من المستمعين تعتبر هي الأقل عدديا وسط الشرائح المجتمعية، غير أن هذا الخطاب الواضح استطاع من خلاله الوصول إلى فئة من الناس كان من الصعب على الحركة الاسلامية الوصول إليها لانتماء أطر حزب العدالة والتنمية للفئة الوسطى داخل المجتمع، فخطابه ليس مجرد ﺧﻄﺎﺏ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻟﻠﻨﺨﺒﺔ المثقفة بل هو خطاب سياسي موجه لشرائح المجتمع المختلفة، لأن لغة الخطاب بالنسبة إليه الهدف منها تحقيق التواصل العام، وهذه الخصلة جعلت خصومه يتهمونه بامتلاكه لخطاب شعبوي غير أن ما ينفي عنه صفة الشعبوية هي خاصية الوضوح في المبادئ والافكار ممزوجة بالصدق والعفوية.
ـ الصدق الداخلي والعفوية في الخطاب:
عند استماعك له يشدك خطابه، لأن هناك صلة واضحة بين النبرات الصوتية والحماسة للأفكار وقوة الاعتقاد في الفكرة، كما أن خطابه يتميز باندماج واضح بين النبرات الصوتية وما ترمز إليه من حالات الغضب أو الفرح أو الحزن، هذا الانسجام بين الكلمات لديه وبين ما ترمز إليه يأخذ بلب السامع. فهو يعرف ما يجب أن يتحدث عنه وما يجب أن يتجنبه، وعلى الرغم من أنه لا يحسن في كثير من الأحيان اختيار الأوقات المناسبة لعرض أفكاره، إلا أنه يستطيع إثارة حالة من النقاش الداخلي في التنظيمات التي يوجد بها، ونادرا ما يمر حضوره في لقاء من اللقاءات دون أن يثير المتلقين بأفكاره وتصوراته.
ـ القدرة على صنع المصطلحات والنعوت والأوصاف :
يتميز بنكيران بقدرته على صنع المصطلحات والنعوت بالاعتماد على معجم متداول يمتح من الخطاب الشفوي العامي، حيث يمكن اعتباره السياسي الوحيد الذي يطلق نعوت وصفات وسمات على خصومه سرعان ما يتداولها الاعلام، الشيء الذي يضعه في صفوف صناع الخطاب الكبار في المغرب الذين حركوا الجماهير …
ـ خطاب أبوي :
غالبا ما يستعمل كلمات قريبة إلى معجم الأخ الأكبر حيث مصطلحات الحنو والمسؤولية وفي بعض الأحيان القسوة، وهذه الطريقة المستعملة في الخطاب يستعملها سياسيون كبار من أجل إقناع الآخرين بأنهم أكبر من ذلك، وأنهم يمتلكون القدرة على الصفح والتجاوز، هذه الخصلة ميزته في قيادته للحركة الاسلامية في الفترات الاولى من حياته الدعوية، إلى درجة أن وصفه الكثير من الاسلاميين بأنه يسبق زمانه، وأنه يأخذهم برفق وبمسؤولية الأخ الأكبر نحو التأقلم مع الأوضاع المستجدة، ويستدلون على ذلك بموقفه من الدعوة إلى خروج الحركة الاسلامية إلى العمل العلني، وموقفه من إمارة المؤمنين…
ـ خطاب حواري :
بنكيران من الشخصيات التي تفكر بصوت عالي، لذلك فهو لا يمكنه أن ينتج بدون علاقات التجادب مع الآخرين، حيث يعتمد في خطابه على المشاركة والحوار ولكن يحتفظ مع ذلك على قوته وصفاء المبادئ التي انطلق منها مشروعه الفكري . فهو يتعايش مع الآخر بسهولة دون التخلي عن المشروع الاصلاحي الذي يدعو إليه، مع قدرته على المراجعة الفكرية لما يؤمن به، حيث يزرع في أتباعه والمتعاطفين معه نوعا من الثقة عندما يستمعون إلى قوته في الخطاب وشجاعته في مواجهة الخصوم.
2 ـ على مستوى المضمون :
يقول أحد الدارسين المحدثين: “إن الرهان الأسمى للخطاب السياسي ليس، كما يمكن أن يُعتقد، هو حملَ رسالة أو نشرَ أيديولوجية، أو التحريكَ من أجل فعل، بل هو تأكيد هوية خطيب من أجل تسهيل انخراط مستمَع”، وهذه الخاصية ميزة أساسية له، فهو سياسي يحمل مشروعا فكريا يريد إقناع الآخرين به، ولا يمارس الخطابة من أجل الخطابة، لذلك فالخطاب السياسي عنده ليس مجرد نبرات صوتية، وإنما يمتلك مقومات أخرى تميزه، وضوح الرؤية وصفاء الفكرة، الشيء الذي يجعله في موقع قوة، حيث يمتلك بنية نظرية على درجة من التماسك، ويمكن استحضار هذه البنية على الشكل التالي :
ـ موقفه من الملكية :
لا يمكن أن تكون لبنكيران قوة الإقناع لو لم يكن له إيمان وثقة في الأفكار التي يؤمن بها، وأهم الأفكار التي تثير نقاشا لدى خصومه ومحبيه على حد سواء موقفه من الملكية،
ففي اللحظة التي تخلى كثير من المحسوبين على الملك، عن الملكية بعد انطلاق الشرارة الأولى للاحتجاج في المغرب، وبعد تسرب الشكوك حول إمكانية نقل العدوى بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية، في ظل هذه الحالة من الارتباك وعدم القدرة على التموقع الجيد نظرا لغياب الرؤية، انبرى أمين عام حزب العدالة والتنمية للدفاع عن الملكية، وخفتت أصوات أخرى رغم إيمانها بأن الملكية صمام أمان وأنها قادرة على ضمان الاستقرار للمغرب، وقد نجح في توجيه الحزب نحو الابتعاد عن حركة 20 فبراير على الرغم من قوة الحراك الداخلي المنادي بالانخراط في صفوفها. واستطاع في هذه الظروف المشوبة بالحذر أن يوجه الأنظار نحوه، منافحا عن الملكية حينا وموجها سهام نقده للفبرايريين حينا آخر، مبديا قدرة كبيرة على المواجهة والصمود، حيث استطاع تنظيم أكثر عدد من المهرجانات في المداشر والقرى والمدن، ووجه الغرابة عند البعض أنه الحزب الأكثر تضررا في ظل الملكية الجديدة، وبالتالي كان من الأولى أن يتخذ موقفا أكثر قوة من أجل التغيير، أو على الأقل أن لا يغامر بمواقف قد تحسب عليه سياسيا فيما بعد، ومع ذلك فقد أخذ موقعه منذ البداية في مراحل متقدمة من أجل الدفاع عن الملكية بالمغرب، باعتبارها صمام أمان وضامنة للوحدة بين المغاربة، الأمر الذي جعل النخب الثقافية والسياسية تختلف في تقييم موقفه من الملكية.
هناك تفسير يجعل من الخطاب السياسي لبنكيران خطابا غارقا في الأحكام السلطانية، يؤمن بمفاهيم الخوف من الفتنة، والطاعة لأولي الأمر ولو تأمر عليك عبد حبشي وأما القريبين منه فيعتبرون تصوره للملكية الغرض منه تجنيب الحزب مخاطر المواجهة بين المشروع الاسلامي والملك، أما خصومه يعتقدون أن دفاعه عن الملكية مجرد تكتيك سياسي سرعان ما سيتخلى عنه عند تغير موازين القوة.
وعلى الرغم من تعدد المواقف النقدية لتصوره للملكية بتعدد توجهات أصحابها، فإنه حافظ على تصور فكري ناظم لموقفه من الملكية، باعتبارها واجب شرعي دون أن يغرق في الأحكام السلطانية حيث أنه استطاع تفكيك الملكية والتمييز بين الملك كشخص والملكية كمؤسسة التي يمكن اعتبارها ضامنة للاستقرار بالمغرب، وضامنة أيضا لاستمرارية المبادئ الدينية، إذ أن إيمانه بالملكية لم يذهب به حد القبول بقداسة الملك كما كانت في الدستور السابق، ومن هنا يمكننا أن نقول أن موقفه هذا عبارة عن إجابة عملية لإشكالية عميقة في التراث السياسي الاسلامي.
ـ خطاب وعظي:
يبتعد خطاب بنكيران السياسي عن المصطلحات العلمية والمفاهيم القانونية أو السوسيولوجية، ولكن هذا لا يعني أنه لم يختر لغة خاصة به تميزه عن غيره، فخطابه يمتح من معجم وعظي تربوي قريب للواقع، وقد يكون تشكل له هذا المعجم من خلال فترات الوعظ التي كان يقوم بها في المساجد، وقد يكون استلهمه من بعض الشيوخ الذين تأثر بهم خاصة الشيخ كشك، وقد تجد تشابها واضحا في طريقة أداء الشخصيتين خاصة عند معالجة الشيخ كشك للقضايا السياسية وربطها بالمنظومة الشرعية. لذلك فإن خطابه يجد صدى لدى التيار التربوي داخل الحركة الاسلامية، الذي يركز على الأخلاق والدفاع عن الهوية.
ـ قدرة على استيعاب الواقع:
يمكن اعتباره أحسن من تأقلم مع وضعية ما بعد الدستور الجديد، واستطاع فهم منطق التحول الجاري في العالم وفي المغرب خاصة، هذا التحول يحتاج من صاحبه استعدادا نفسيا خاصا، ينتقل بموجبه الفرد من حالة السكون السياسي، والخوف من تبعات الخطاب السياسي في دولة مغلقة، إلى خطاب جديد يتميز بالحرية والإبداع وأخذ المبادرة وعدم انتظار التوجيهات الفوقية. فمن بين السياسيين يمكن اعتباره أحسن من استطاع التخلص من التاريخ السياسي لما قبل انجاز الدستور الجديد حتى داخل أبناء الحركة الاسلامية أنفسهم. فالدساتير في الدول المتخلفة هي مجرد آلية لشرعنة التحكم، حيث يتحول شيخ القبيلة إلى رئيس للدولة، أما بنكيران فقد فهم أننا في المغرب نتحدث فعلا عن مرحلة جديدة لدستور يمكن الاعتماد عليه لتنظيم السلطة السياسية من خلال مبدأ ﻓﺼﻞ السلط ومن خلال مبدأ سمو الدستور والاحتكام إليه، في ظل التحولات الحالية.
لذلك ومن أجل لفهم الخطاب السياسي لبنكيران يجب استبعاد القراءة القانونية الدستورية النصية، واستحضار البعد الاجتماعي والتكوين النفسي لشخصيته، حيث امتلك قدرة على مواكبة التحول العميق الجاري الان في العالم العربي وفي المغرب خاصة.
ـ استقلالية الخطاب:
عادة ما يسعى النظام المخزني إلى احتلال كل المجال السياسي وأن يحتكر لغة الخطاب في مجال السياسة، ﻛﻤﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳﻈﻞ ﺍﻟﻤﻬيمن والمتحكم ﻓﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺭﺍﺕ، إذ أنه لو ظهرت أي شرعية سواء دينية أو فنية أو رياضية أو خيرية أو سياسية … فإنك ستجد لا محالة الملك على رأسها أو الممثل الأول لها، لذلك تعامل السياسيون بذكاء غريب مع هذا الوضع، حيث تفهمت النخب حدود المسموح به واللامسموح به في الخطاب، غير أن بنكيران استطاع أن يتخلص من عقدة الخطاب لدى السياسيين والتي هي عقدة نفسية بالأساس ناتجة عن سنوات من التحجر ومن السكونية السياسية، لقد استطاع تحقيق الاستقلالية النفسية عن الخطاب السياسي الممخزن عند النخب السياسية، ويتجلى ذلك بوضوح في مخاطبته للملك بطريقة مباشرة موجها له الخطاب في مهرجاناته بشكل مباشر وصريح.
ـ النضج السياسي:
على الرغم من بساطة اللغة المستعملة في خطابه إلا أنها لغة سلسلة ومؤثرة وهي وإن لم تكن لغة عالمة فهي تبرز أن للمتحدث بها وعيا سياسي يحترم من خلاله المستمع، حيث لا تنبع قوة الخطاب لديه من وضوح الرؤية فقط وإنما أيضا من قوة الحزب الذي ينتمي إليه، ومن قوة الأعضاء والمستشارين المحيطين به، فالأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ساهمت في كثير من الأحيان في تنضيج الافكار وتوضيحها…
ـ مراعاة حدود القوة والضعف:
خطاب يحمل مصداقية أمام الخصوم قبل المتعاطفين معه، نظرا لمراعاته لحدود قوته فهولا يجد حرجا في الحديث عن نقائص حزبه ونقط ضعفه فهو لم يدعي أثناء الانتخابات أنه سيكتسح الانتخابات مثلا… كما أنه يحترم خصومه، ولا يجد حرجا في الاعتذار إن أخطأ ـ الاعتذار للأمازيغ مثلا ـ أو مدحه لخصومه والاعتراف بقوتهم ، مدحه للاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية على الرغم من عدد مقاعده القليلة.
الوفاء والاعتراف بالجميل:
قد يبدو موقفه من الملكية يحمل بين طياته وفاء للعهد الذي قدمه على نفسه للدكتور الخطيب، من حفاظه على الملكية ودفاعه عنها، فشخصية بنكيران تتميز بالوفاء، وقد نكتفي ببعض الإشارات في هذا المجال نظرا لكثرتها، دفاعه عن جامع المعتصم وعدم التخلي عنه، دعمه لرشيد نيني ووقوفه إلى جانبه، وفاؤه لذكرى الدكتور الخطيب وزيارته لبيته مباشرة بعد تنصيبه رئيسا للوزراء، وزيارته لرجالات الدولة المغربية ذوي التوجهات المختلفة بعد ذلك، ثم وفاؤه لأصدقاء الرحلة الطويلة في درب الدعوة (حرصه على أن يكون عبد الله بها بجانبه في العمل الحكومي كوزير دولة بدون حقيبة )…
خالد عاتق*
ـ باحث في علم الاجتماع تخصص التحولات الاجتماعية والتنمية المحلية جامعة محمد الخامس الرباط.
ـ عضو المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة