بينما انا جالس على مكتبي، إذ بي أرجع إلى أرشيفي الخاص بذاكرة العمل التلمذي قبل أربع سنوات، فاذا بعيني تسقط على مذكرتي التي كانت لا تفارق يدي. فاكاد أجزم أني لم أغفل أية محاضرة أو اجتماع إلا و رافقتي، و بينما أنا أتصفحها و أتنقل بين صفحاتها إذ بي أتذكر ماض قريب يبرق في ذاكرتي كالانوار الخافتة، و أمسك وعي بخيوط واهية تربطني بجزء غير بعيد و في كل جذبة كنت أستعيد أياما و سنوات من العمل التلمذي رفقة ثلة من الشباب الطموح، غيرأن ما أثار إنتباهي هو ما كُتب في أحد صفحات مذكرتي و بخط عريض “البعثة الأولى”. ذكرى إستوقتني قليلا و شردت بنظراني بعيدا فاستطعت على الفور أن أتذكر ما حصل. كان الامر في 2014/02/20 حينما شاركت في ندوة بإحدى الثانويات تقع خارج إقليم مدينة -تزنيت-. و كان موضوع الندوة هو “الشباب و تحديات العصر”.
إكتظت قاعة الندوة بالتلاميذ عن أخيرها، شرعت في مداخلتي أتحدث عن هذه التحديات و أعرضها واحدة تلو الأخرى، و من بين ما ذكرته تحدي “الجنس”. و في حديثي عن هذا الاخير إستعنت و في نفس السياق بفقرة من ما يسمى “ببروتوكولات حكماء صهيون” متهما ما وصفتهم بأعداء الانسانية ( اليهود الصهاينة) كرواد للانحلال الشباب، و هذه الفقرة تقول: [يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا، إن فرويد منا، و سيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شي مقدس، و يصبح همه الأكبر إرواء غرائزه الجنسية، و عندئذ تنهار الأخلاق]. متهما الثالوث اليهودي “فوريد” و “ماركس” و “دوركايم” -حسب وصف سيد قطب في كتابه “معركتنا مع اليهود”-. و عموما، مثل هذا الفكر هو الرائج بين أوساط ابناء الحركة الاسلامية في بداياتها و ما يزال بعضهم يتمسك به حتى اللحظة. فهذا النوع من التحليل الصبياني الاختزالي الذي حاولت من خلاله أن أقارب موضوع الندوة يعكس في عمقه أزمة بدأت تلوح بالافق. إذن، لابد من الاعتراف مسبقا، أننا في مرحلة من عمرنا كنا في حالة سذاجة فكرية. و جهل مؤسس.
إننا بمثل هذه الخطابات، نعبر عن أزمة يعيشها العقل المسلم في رسم علاقته مع الغير -الغرب-، إن إطلاق أحكام قيمة مثل هذه، ناتجة لما كان شائع في خطاب الحركة الاسلامية في بداياتها، كونها حركة أجتماعية جاءت كرد فعل عن الاستعمار -الاخوان المسلمون- نموذجا، و حملت على عاتقها أمانة الجواب على سؤال: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ؟ -شكيب أرسلان- محاولة فك شفرة النهضة العربية التي أوقدها جمال الدين الأفغاني و تلميذه محمد عبده منذ القرن 19. لكن الملاحظ، أن الحركة الإسلامية في بحثها عن حل لهذه المعادلة، طرحت مسألة الذات على أولى أولوياتها بحثا أو إلم نقل-إسترجاعا- للأصالة التي إنمحت في المجتمع، بفعل أطروحات العدو اللذوذ للحركة الإسلامية و المشوش “الزعيم السياسي الليبيرالي” الذي تأثر بالفكر الغربي و الحضارة الغرببة و أتهم بالعمالة لها. من هذا المنطلق، حاولت الحركة الإسلامية الرد على دعاوى الليبيرالية قصد الدفاع عن المنظومة الدينية و بالتالي، رفضت كل ما يأتي من الغرب و صورت المعركة بين الغرب كونها نزاع دائم بين [النصرانية] و [الاسلام]. و هذا ما نفهمه أحيانا في وصف ما يحدث في العالم الاسلامي بمثابة “حرب صليبية” جديدة للثأر من الاسلام، كما أن مجموعة من المفكرين أمتثلوا أمام محكمة التاريخ و ألصقت بهم إتهامات باطلة من قبيل معاداة الدين و الالحاد و “كارل ماركس” نموذجا عندما ينسبون إليه القولة المشهورة “الدين أفيون الشعوب”. لكن و موازة مع ذلك، و حتى لا نقع في شباك توزيع أحكام قيمة دون تحري للموضوعية، فمن الضروري التأكيد على أن هناك تيارات و حركات ذات توجه إسلامي نجحت في تعديل هذه الرؤية و فطنت إلى ضرورة تجديد الخطاب الإسلامي.
إن ما يعاينه اليوم أبناء الحركة الإسلامية هو أنهم يناقشون من داخل الصندوق، و يرسمون لوعيهم حدودا وهمية، و يرددون أحكام قيمة سمعو لها عن مفكر أو فيلسوف غربي قد لا تكون صحيحة. فالرؤية الكاملة لا تكون بعين واحدة، بل بكلتيهما حتى تتضح الرؤية أكثر. و ليس التقوقع في نفس فكري ايديولوجي واحد هو الحل، لانه بذلك يحتجب الوعي النقدي في كثير من المجالات و يسقط مرات عديدة في إستلاب الإيديولوجيا و التصورات التبريرية ( عبد الله العروي: الايديولوجيا العربية المعاصرة) .
إذن، فالوضع لا يقبل التأجيل و نحن نعيش في جو هادئ، رتيب تبلى بعض أفكارنا مع مرور الايام و يعجز وعينا عن فهم الواقع و إدراك الذات. لذلك فإننا في مسيس الحاجة إلى إجراء عملية جراحية على مستوى وعينا لإزالة ما علق به من مخلفات هامدة ذات تمثلات ايديولوجية، و ذلك لإعادة ترميم الخربطة الادراكية للعقل حتى يتحرر من ثقل الاعمال الموروثة. و بوجود الوعي النقدي حينئد فقط، يمكننا حل شفرة اشكالية النهضة. لكنه يفترض و يشترط مسبقا عدم الامتثال للتمثلات الايديولوجية .
سمير إدواعراب
تعليقات