الخميس 14 نوفمبر 2024| آخر تحديث 9:44 02/11



هل هناك ارتباط في بنية الدولة بين تونس والجزائر والمغرب؟

لفهم حقيقي لبنية وتشكل الدولة المغاربية، لا بد من فهم إرثها التاريخي والحضاري والسياسي، الذي يمتد إلى ما يفوق 3000عام، والذي يرتكز بالأساس على نظام “تكلديت” عند الأمازيغ، وعلى إنتاج الفكر السياسي المرتبط بهذه الحضارة العريقة، فشمال إفريقيا كان سباقا إلى إنتاج الأفكار السياسية.

إن فهم الأنساق التي تنبني عليها الأنظمة السياسية الحديثة بالشمال الإفريقي، يفرض فهم منطق الاستمرارية في بنية الدولة،من خلال قراءة سياسية وسوسيولوجية لحقب التاريخ، وكذا قراءة تعتمد على التداخل وعلى تشكيل نسق  بين التفاعل الحضاري والسياسي الأمازيغي مع الفينيقيين، وكذا مع الرومان، وحركة القائد “ماسينسا”، والحركات الثورية لكل من “يوكرتن” و”تكفاريناس”و”أديموند”، والحركة الفكرية ل “أبوليوس” و”دوناتوس” وغيرهم، وكذا إلى فهم التفاعل السياسي مع الفراعنة والكنعانيين والعرب، وغيرهم من دول وحضارات الحوض المتوسطي، حتى بعد دخول الديانة الإسلامية.

ففي هذا الصدد يقول المفكر المغربي عبد الله إبراهيم: أن تطور الشعوب يشبه الخطوط الهندسية، ففيها المستقيم وفيها المنكسر، وعلى عكس بلاد أوربا فقد انكسر تاريخيا خط التطور المغربي على الأقل  ثلاث مرات في ظروف ثلاثة آلاف عام، عندما انسلخ عن تيار قرطاجنة الحضاري الألفي و تمسح تدريجيا مع الرومانيين، وعندما انسلخ عن تيار الرومانيين الحضاري…( ). وهكذا وعلى مدى  سبعة قرون قبل الميلاد كانت للمغاربة علاقات سياسية و اقتصادية وثقافية مع الفينيقيين، وفي عهد الرومان عرف المغرب وشمال إفريقيا عهودا مشرقة، سجلها التاريخ في الموروث الإنساني رغم أن جزءا من هذا الرصيد الفكري تعرض للإتلاف وللإحراق، كما أشار إلى ذلك الحسن الوزان( ).

إن هذا الخيط الرابط، يمتد حتى العصر الوسيط بالمنطقة،والذي لعبت فيه دول وحركات سياسية كان منطلقها المغرب الأقصى دورا محوريا، كالمرابطون والموحدون والمرينييون…، هذه الفترة التي استفدنا كثيرا من التحليل والقراءة الخلدونية لها، والتي تعد همزة وصل لفهم تشكل الدولة المغربية، من خلال نظريته حول العصبية القبلية والتي شبهها بالإنسان فهي تولد، تتطور ثم تموت، وتتسلق الدولة سلم المجد إذا تقوت عصبيتها،وهذه العصبية الخلدونية لا يمكن إسقاطها إلا على إيديولوجيا الدولة الحديثة، التي تكون قالبا لتصوراتها وأسس مشروعيتها  لضمان الاستمرارية.

إن بنية الدولة-القبلية التي شهدها المغارب وتقوت خلال العصر الوسيط، تتميز حسب “إرنست جيلنر” بالانقسامية،أو نظام المعارضات المتوازنة. حيث لا يسمح بوجود سلطة مركزية،ففي القبيلة تتوزع السلطة  داخل البنية القبلية المتشعبة.

وقد تطرق عبد الرحمن بن خلدون إلى القبيلة، والى ارتباط منطقة الشمال الإفريقي بالتجارة التي توارثوها عن الفينيقيين، وربط التأخر التاريخي وأفول الدول القائمة، بتراجع التجارة، حيث أن التجارة قد ساهمت في تقوي إمارات ودول كسجلماسة، تاهرت ، برغواطة، و دول الموحدين والمرابطين وبنو عبد الواد، وبنو حفص.

إن القرن التاسع عشر بالمنطقة كان لحظة تراجع، وضعف، ودعوة للإصلاح،لاسيما من خلال دعوة خير الدين المعروفة بتونس، أو من خلال الإصلاحات الذي قادها السلطان الحسن الأول بالمغرب الأقصى، والتي تعثرت جميعها أمام الحركة الاستعمارية الأوروبية، التي كانت تحت غطاء التمدن وترميم الدول.

لقد كانت دعوات الإصلاح السياسي بدول المنطقة، منذ القرن التاسع عشر، تدعو بالأساس إلى إصلاح مؤسسات الدولة كالجيش والسياسة الخارجية والتعليم والضرائب، متجاهلة العنصر البشري الذي كان محط اهتمام الأوروبيين، أثناء دعوتهم إلى الإصلاح والتغيير منذ عصر الأنوار والحركة الإنسية. فخير الدين بتونس مثلا، ومن خلال مؤلفه ” أقوم المسالك في معرفة أحوال المماليك”، دعا إلى العودة إلى أصول الدين لبناء فكر سياسي قوي، ثم دعا إلى استيعاب ثقافة الآخر،لا إلى الانبهار بها وتقليدها الأعمى. أما السلطان الحسن الأول، فكانت إصلاحاته منصبة بالأساس على مؤسسة الجيش وعلى الوحدة الترابية للمملكة المغربية. لكن هذه الإصلاحات كلها، ستركع أمام الاستعمار الفرنسي، من خلال احتلال الجزائر سنة 1830، وبعده معاهدة “تافنا”، وكذا تونس سنة 1881 من خلال من معاهدة “باردو”، والمغرب اٍثر هزيمة “إسلي” ومعاهدة الحماية.

إن فترة ما بعد الاستعمار، وما خلفه هذا الأخير من نتائج تجلت بالأساس في الثورة الديمغرافية، وظهور اقتصاديات مستنزفة ومتآكلة، وظهور الوعي السياسي من خلال حركات تحررية، هذه الأخيرة اعتمدت أسسا متعددة لمشروعيتها السياسية، حيث شكل المغرب استثناءا من خلال استمرارية النظام السياسي الملكي، عكس تونس والجزائر مثلا، حيث تحولت الحركات الوطنية إلى دول.

لقد بني حزب الدستور بتونس المؤسس سنة 1930،مشروعيته لمسك زمام أمور الدولة التونسية ما بعد الاستقلال،على فكرة الكفاح الوطني الذي قاده، وتبنى أسلوب البورقيبية و استغل أفكاره والشخصية الكاريزماتية التي كان يتمتع بها الحبيب بورقيبة.وقد تحول حزب الدستور الجديد بتونس إلى دولة داخل دولة،وشهدت تونس تعددية صورية، إذ بقي حضور الحزب الحاكم في المؤسسات السياسية والاقتصادية الرئيسية داخل الدولة، مما جعله يحتكر السلطة والسياسة بتونس لمدة طويلة. نفس الشيء تقريبا حصل بالجزائر حيث بنت جبهة التحرير الوطني المؤسسة سنة 1954 مشروعيتها على النضال وعلى استقلال الجزائر، الذي اعتبرته إنجازا خاصا بها يخولها الحكم والسلطة بالجزائر، وهو مازال مستمرا كذلك إلى يومنا هذا، رغم وجود تعددية وأحزاب، لكنها لا تمتلك الامتيازات السياسية التي يتمتع بها حزب جبهة التحرير الوطني.

وهكذا، وحسب المحللين أصبحت الملكية في المغرب ،والتي بقيت مستمرة في الحكم بعد استقلال المغرب وفية للماضي ميالة للانفتاح المحدود،وبدأت تتقاسم شرعيتها مع نخب تجتهد إلى بناء المؤسسات السياسية العصرية، وهو ما أفرز التعددية السياسية في المغرب وما أثارته من تناقضات من خلال تهميشها للثقافة الأمازيغية، وما تبع ذلك من نشوء الحركة الأمازيغية المعاصرة ،إضافة إلى السجال العميق الذي طرح بالمغرب، حول أسس مشروعية نظام الحكم الملكي ،والتي تتوزع بين التاريخي والسياسي والتعاقدي، كما يستنتج ذلك من بنود الدستور المغربي الحالي.

وقد كان حزب الاستقلال في الأيام الأولى لاستقلال المغرب يطمح إلى احتكار العمل الحزبي، واعتبر نفسه القوة الحزبية والسياسية الواحدة بالبلاد والمكملة للمؤسسة الملكية، فقد قال علال الفاسي في أحد خطاباته : ” ليس في المغرب إلا قوات ثلاث : أولا: قوة الاستقلال، وثانيها : قوة الجيش، وثالثها: قوة القصر. وإذا اعتبرنا جيش التحرير قوة من الحزب وإليه، كانت في المغرب قوتان لا ثالث لهما: قوة حزب الاستقلال وقوة القصر أو العرش”( ).لكن هذا الطموح الذي عبر عنه حزب الاستقلال، سينكسر بعد صدور قانون الحريات العامة سنة 1958، وتأسيس حزب الحركة الشعبية ،ثم الانشقاق الذي عرفه حزب الاستقلال، وظهور أحزاب أخرى بدأت تغني المشهد الحزبي المغربي منذ مطلع الستينات.

لقد ارتكبت نخبة حزب الاستقلال خطءا قاتلا بعد استقلال المغرب سنة 1956،بإلغاء القسم الجنائي العرفي بالمحكمة العليا الشريفة، وكذا صدور ظهير إحداث المحاكم العادية وإلغاء المحاكم العرفية،وهو ما أدى إلى حدوث توترات واحتجاجات شعبية بتافيلالت، والريف، حيث تعرض النظام القانوني المغربي إلى اختراق وتعويض فجائي بنموذج غريب عنه( ).وهدا الاحتجاج يمكن أن نعده الشرارة الأولى لظهور الحركة الأمازيغية بالمغرب .وكما أسلفت الذكر فإن مشروعية النظام السياسي المغربي الحالي  تستمد من الدستور المغربي، إضافة إلى تجليات أخرى غير واردة في الدستور، وتبقى عرفية، وتتجلى المشروعية الدينية من خلال الفصل 19 من الدستور، الذي ينص على إمارة المؤمنين التي تتأسس على النسب الشريف والدين الإسلامي وحمايته، ثم المشروعية التاريخية التي يستمدها النظام الملكي من ترسخ الملكية في المجتمع المغربي منذ القدم،و المشروعية التعاقدية من خلال البيعة، وحفل الولاء الذي يقام كل سنة.

في الأخير يطرح تساؤل جوهري نفسه، فبعد أزيد من 3000 سنة مدونة من التاريخ السياسي  لدول شمال إفريقيا ،وما شهده من فترات مد وجزر، وبعد تحمل الدولة الحديثة مسؤولية بناء الدولة منذ 50 سنة ،على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. لماذا حصلت خيبة أمال الشعوب المغاربية في دولها ونخبها السياسية، ومن سيمثل حركات الإصلاح السياسي الحقيقي داخل هذه الدول يومنا هذا ؟.

 

بقلم: أحمد الخنبوبي