هذا العنوان مأخوذ من الكتاب الشهير للثائر الأمريكي “جون ريد”، الذي تحدث من خلاله على “عشرة أيام هزت العالم”، وهو بذلك يقصد الأيام السابقة لأول ثورة عمالية في العالم عرفتها روسيا القيصرية في أكتوبر 1917.
سيقول قائل، وما العلاقة ما بين روسيا القيصرية والمملكة المغربية؟
بالفعل، زمن روسيا القيصرية هو زمن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بكل حمولاته العلمية والتقنية والفلسفية، وبحروبه العالمية، وصعود المد الثوري للطبقة العاملة وتنظيماتها، وبروز “الإمبريالية كأعلى درجات الرأسمالية”، واستعبادها للشعوب ونهبها للثروات واستعمارها لجزء كبير من المعمور.
في الوقت الذي كان الجميع ينتظر أن تتحقق نبوءة كارل ماركس في قيام ثورة عمالية بإنكلترا – مهد الرأسمالية -، ومن بعد بألمانيا حيث التنظيمات العمالية القوية، إذ يباغت عمال وفلاحو وجيش روسيا بثورة غير منتظرة، ما دامت روسيا بلدا متأخرا اقتصاديا، وآخر حلقة ضعيفة في سلسلة البلدان الرأسمالية… لكن إرادة الشعب الروسي كانت الأقوى…
تغير العالم كثيرا خلال القرن العشرين، وسقطت دول اشتراكية كبرى كالاتحاد السوفياتي، وانهارت تنظيمات يسارية شيوعية واشتراكية، وأصبحت النظريات الليبرالية تهيمن على كل البلدان، والرأسمالية المالية تسيطر على كل مناحي الاقتصاد والاستهلاك ولها الكلمة الأولى والأخيرة، كما ظهرت ظواهر جديدة تتمثل في رجوع الدين لاحتلال مواقع متقدمة في حياة الناس، وبروز تيارات سياسية دينية قوية، كما هو الشأن بالنسبة للحركات الإسلامية…
جميل كل هذا… ولكن هل وقعت ثورة إسلامية أو اشتراكية بالمملكة المغربية خلال ستة أيام التي هزت المغرب؟ وعن أي أيام نتحدث بالضبط؟ لا، لم تقع الثورة بل وقعت مؤشرات الثورة… لقد استطاع الوعي السياسي للشعب المغربي أن يرتقي إلى لحظات شبيهة بالمراحل التي تسبق تغييرات كبرى، حيث يشعر الشعب أن الوضع أصبح لا يطاق، وأنه حان الوقت لنقلة نوعية في الصراع التاريخي للشعب من أجل الحرية والكرامة والعدالة والانعتاق…
كانت ستة أيام كافية لدق ناقوس الخطر… خطر الاستمرار في تجاهل الشعب ومطالبه وحقوقه… خطر الاعتقاد أنه بعد ثلاث سنوات على الربيع المغربي، المتمثل في حركة 20 فبراير، حان الوقت لبداية ضبط جديد للساحة السياسية… خطر تصور أن لعبة ضرب شعب اليسار بشعب الإسلاميين قد أتى أكله… خطر تصديق أطروحات آتية من المشرق كون “الربيع العربي” قد انتهى، وأن زمن الإسلاميين قد ولى بدون رجعة…
الغريب أن كل المؤشرات كانت توحي بعكس ذلك، المتتبع لنبض الشعب كان بإمكانه الانتباه إلى كون الربيع المغربي مع حركة 20 فبراير كانت سوى البداية لمسلسل التغيير. الكثيرون لم يستوعبوا أن الشعب رجع إلى الوراء بوعي، حتى يفسح المجال لكل عمليات الإصلاح الممكنة، والابتعاد عن كل مواجهة دامية ومكلفة للشعب وللوطن ولمنشآته…
يجب الاعتراف أن الشعب المغربي ارتاح لخطاب الملك ليوم 9 مارس 2011، ووافق على الدستور الجديد واهتم جزء كبير منه بالانتخابات والحكومة الملتحية التي أفرزتها صناديق الاقتراع… وانتظر تغيير ظروفه المعيشية، والإصلاحات الهيكلية، وتنزيل الدستور وعقلنة المشهد السياسي….
الشعب كان يتابع وينتظر… انتظر وبحسن نية… انتظر وكله أمل في الإصلاح ضمن الاستقرار… وطال الانتظار…
وهو ينتظر، كان الشعب يتتبع عن كثب تصارع جبهتين، من 2011 إلى يومنا هذا، من جهة جبهة الفلول كما يسميهم إخواننا في مصر، وهم موجودون في كل مكان وزمان، ويلقبهم البعض هنا في المغرب بالتماسيح والعفاريت، هذه الفئة كانت تخطط ليل نهار لإسقاط مقولة “الشعب يريد…”، وكانت تهيئ التقارير على المقاس وتوجه الإعلام وتحرك أدواتها السياسية في اتجاه تشويه كل إصلاح وكل مبادرة بناءة، هدفها تمييع السياسة والرهان على تعب الشعب من السياسيين والعودة إلى الانكماش على مشاكله اليومية…
المشكل الكبير أن هذا الفلول وهذه التماسيح والعفاريت، المتواجدة في أجهزة الدولة وفي الإدارة والأحزاب والإعلام والمرافق الاقتصادية، وأيضا ضمن النخبة، والتي كانت تتوفر على إمكانية الاضطلاع على تقارير الأجهزة… كانت تتجاهل عن قصد “غليان” الشعب وربما لم تكن في مستوى استيعاب تلك التقارير أو أن التقارير نفسها لم تكن في المستوى المطلوب… إنها نفس الحكاية منذ القدم، المصالح تعمي الأبصار، والعقل لا يرى الواقع كما هو، بل يعيش في وهم القدرة على السيطرة على الشعب ومجريات التاريخ… حتى يقع ما لا يحمد عقباه…
من جهة أخرى، كان رأي آخر، يحذر من مغبة التراجع على مكاسب شباب 20 فبراير، ويطالب باستغلال الفرصة التاريخية المتاحة للقيام بالإصلاحات التي يتطلبها العصر بتدرج وتعقل في إطار الاستقرار، واستغلال الاستثناء الذي تحدث عنه الكثيرون في طريقة معالجة الربيع المغربي لثورة شبابه، على خلاف الربيع العربي في دول كتونس ومصر وليبيا الذي أسقط الرؤساء وهياكل الدول …
هذا الرأي كان يشير إلى كون الشعب، ذلك المجهول، لا يمكن لأي أحد التكهن بما يفكر فيه ولا بما يمكن أن يصدر عنه من قرارات ومواقف… وكان هذا الرأي يعاتب النخبة السياسية على غموضها وترددها وعدم قدرتها على الحسم التاريخي، وعجزها عن الارتقاء بهذه اللحظة لمباشرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اتجاه توزيع عادل للخيرات واحترام إرادة الشعب وكرامته…
وأكد هذا الرأي على كون الصراع سيحسمه ميزان القوى المجتمعي… بمعنى آخر، هل سيركن الشعب إلى الخمول والانتظار ويرجح كفة الفلول والتماسيح والعفاريت أم أنه سينتظر اللحظة المواتية للتعبير عن احتجاجه على الاستهتار بحقوقه ومطالبه… لقد انتظر الشعب ثلاث سنوات لكي ينهض هذه المرة كرجل واحد ليقول: كفى…
وكانت المناسبة قضية العفو الملكي على “دنيال كلفان فينا”، الوحش الإسباني، مغتصب أطفال المغرب… الشعب يستغل مناسبة ما، أو قرارا ما، أو حدثا ما، لكي ينتفض ويقول كلمته، وكلمته تكون هي الأقوى… لقد شكل قرار العفو الملكي، فرصة للشعب للتعبير عن كل ما بداخله وكل ما راكمه من إهانات وتهميش واستهتار خلال كل الفترة السابقة… لقد شكل قرار العفو النقطة التي أفاضت كأس الحكرة والإهانة في حق الشعب المغربي …
إن حدث العفو الملكي عن الإسباني من أصل عراقي، المتورط في جرائم اغتصاب بشعة ضد أطفال أبرياء مغاربة، شكل حدا فاصلا ما بين مرحلتين، مرحلة الانتظارية والتردد إلى مرحلة دخول الشعب المغربي بكل فئاته في تحديد خريطة الطريق للمستقبل، خارطة الطريق للإصلاح أخذا بعين الاعتبار مطالبه وحقوقه التاريخية…
لذا فإن الستة أيام التي هزت المغرب، ستبقى راسخة في ذاكرة الشعب المغربي إلى الأبد، وستشكل مرجعا هاما للنخبة السياسية والاقتصادية ولمراكز القرار، بضرورة الترقي بالعمل السياسي إلى مستويات أخرى ومهنية أكثر وجدية في التعامل مع الملفات والقضايا المصيرية للشعب المغربي…
يمكن أن نختزل الستة أيام التي هزت المغرب، بدءا من قرار العفو الملكي على 48 إسبانيا من ضمنهم الوحش الأدمي “دانيال كلفان” يوم 30 يوليوز، بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لعيد العرش، إلى انتفاضة الشعب كل الشعب عبر المواقع الاجتماعية، إلى الوقفات البطولية للشعب في مختلف ساحات المدن المغربية، إلى اتخاذ ملك البلاد لقرارات استثنائية: إخبار الشعب بعدم علمه بما اقترفه الوحش الإسباني، من بعد المطالبة بفتح تحقيق في النازلة، إلغاء قرار العفو يوم 4 غشت 2013، اتخاذ قرار إقالة مدير السجون المغربية… والآتي لا يعلمه إلا الله…
لقد تحدث الكثيرون عن ما وقع خلال الستة أيام التي هزت المغرب من يوم 30 يوليوز، يوم العفو الملكي، إلى يوم 4 غشت 2013، يوم إلغاء قرار العفو… لكن ما يجب التنبيه له بالأساس هو كيف أصبحت السياسة هما مشتركا ومجتمعيا لكل فئات الشعب المغربي، بكل فئاته العمرية، وكيف دخلت السياسة لكل البيوت، وكيف ارتقى الوعي إلى درجات عالية من المسؤولية والالتزام بضرورة الدفاع عن كرامة المغاربة، والتنديد بما وقع والاستعداد للتضحية – ودماء الشعب التي سالت عقب وقفات الاحتجاج خير دليل على ذلك – من أجل مغرب آخر، مغرب يحترم الشعب ويدافع عن الشعب…
الشعب، ذاك المجهول، قال كلمته وما زال… الشعب المغربي دخل بقوة في العملية السياسية كفاعل أساسي يجب أخذه بعين الاعتبار… وأعتقد جازما أنه ستكون له الكلمة في الآتي من الأيام، رغم كل المؤامرات التي سيعاد ترتيبها في حقه ورغم القمع والمضايقات ومحاولات فرق تسد… سيكون للشعب كلمة ودور فاعل في خارطة طريق الإصلاح…
الستة أيام التي هزت المغرب، لم تؤدي إلى ثورة لسبب بسيط هو كون إمكانيات الإصلاح في إطار الملكية المغربية ما زالت قائمة ولم تستنفذ بعد، رغم العديد من التراجعات والممارسات المشينة منذ خطاب الملك ليوم 9 مارس 2011، كما أن الشعب المغربي واع بفاتورة ثورات تأتي على الأخضر واليابس كما هو الحال في بلدان عربية كثيرة…
الشعب المغربي خرج مع شباب 20 فبراير سنة 2011، لدق ناقوس الانتباه وقرر الشعب في غشت 2013، دق ناقوس الخطر، وتحذير الطبقة السياسية من مغبة تهميشه والاستهتار بحقوقه وكرامته ونسيان مطالبه….
هل ستستخلص الطبقة السياسية المغربية الدرس من أحداث الستة أيام التي هزت المغرب، ويتغلب موقف العقلاء وتيار الإصلاح بضرورة التوافق التاريخي بين كل مكونات الأمة من أجل بناء مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وإعادة هيكلة الحقل السياسي في اتجاه استقلالية هيئاته ودمقرطة إطاراته ؟
أم أن القوى المحافظة ستكشر عن أنيابها وستدخل في مواجهة مفتوحة مع الشعب لتكسير قوته ونضاليته وتهميش كل الإطارات والفعاليات المرتبطة بالشعب وبمطالبه العادلة؟
… أتمنى أن تكون الغلبة للعقل والبصيرة ولقوى الإصلاح والتاريخ لأن ذلك فيه مصلحة للشعب وللوطن…
بقلم: عبدالحق الريكي
الرباط، 5 غشت 2013
تعليقات