محمد الطالبي*
بعد الحراك الديمقراطي والشعبي الذي عرفته المنطقة العربية في لحظات الربيع الديمقراطي العربي, والذي انطلقت شرارته الاولى امام عربة البوعزيزي. عاش المغرب ثورة اخرى بمفهوم اخر قوامه التغيير في ظل الاستقرار, والحفاظ على مؤسسات الدولة, والتغيير من الداخل كشكل من اشكال الاصلاح تحت راية “الثورة الهادئة”. وقد انطلقت هذه الخطوات بثورات عارمة لشباب 20 فبراير نادت باسقاط الفساد, وطالبت بابعاد المفسدين عن الشان العام, كما طالبت برحيل اسماء بعينها, وحزب سياسي يريد ان يفصل الدولة على مقاسه. هذه الثورات السلمية غيرت الخريطة السياسية راسا على عقب, وحركت مفاصل الدولة الملتصقة بالشحوم لسنوات طويلة في عملية اذابتها وفق برنامج رياضي قاس من تاطير الديمقراطية بمفهومها السليم؛ فالوطن كالطفل ان تهمله شب على حب الفساد وان تفطمه ينفطم ـ مع اعتذاري للبويصري ـ فشكلت هذه المحطة نقلة نوعية من تاريخ المغرب المعاصر توجت بخطاب 9 مارس, والذي استجاب لمطالب التغيير وبالضبط تغيير اسمى وثيقة في الدولة وهي الدستور, وتعيين حكومة جديدة جاءت نتاج اول تمرين رياضي للديمقراطية. اليوم بعد مرور سنة تقريبا من تعيين الحكومة الجديدة بقيادة حزب العدالة التنمية, هل كانت الحكومة في الواجهة للقضاء على جيوب الفساد في دولة نامت لعقود على ايقاع سمفونية الفساد الهادئة لتستيقض على ايقاع طبول التغيير الصاخبة ؟
قال “مصطفى الخلفي” في برنامج حواري لما سئل عن عملية المقاومة التي تعرضت لها دفاتر التحملات “ان ليس هناك اصلاح في الحقيقة بدون مقاومة, والمقاومة ماهي الا دليل قاطع على العمل والدينامية وبالتالي المقاومة دليل على وجود الاصلاح”.
اكيد ان الكل تابع الضجة الاعلامية الصاخبة التي اثارتها دفاتر التحملات لاصلاح القطب العمومي, والنقاش العمومي الذي رافقها في اولى التداريب والتسخينات قبل دخول حلبة سباق الديمقراطية الطويل, والكل تابع كذلك كيف تم اتباع المسطرة القانونية في اعداد هذه الدفاتر التي خول من خلالها قانون77.03 من الفصل 49 من قانون الاتصال السمعي البصري للحكومة اعداد دفاتر التحملات, وتابعنا كيف انتهت باعطائها الطابع الدستوري ـ كما ينص نفس الفصل ـ بمصادقة الهيئة العليا للسمعي البصري عليها, لكن الشئ الوحيد الذي لم يفهمه الكثيرون ومن بينهم كاتب هذه السطور, انها لم تجد طريقها الى النشر في الجريدة الرسمية كاخر اجراء قانوني قبل العمل بها خاصة وانها سارت وفق عملية ديمقراطية وفي اطار تشاركي, والاكثر من ذلك انها تجسد بجلاء مضامين الدستور الذي صادق عليه الشعب المغربي. ليصدم الكل بتصريحات مدراء القطب العمومي في سابقة من نوعها والتي رفضت مضامين تلك الدفاتر لانها لاتجسد بكل بساطة هويتهم هم ـ والتي بالمناسبة ليست هي هوية المغاربةـ قبل ان تنتهي الامور باعادة الدفاتر الى نقطة الصفر وتعيين لجنة وزارية تعيد النظر في بعض تفاصيل تلك الدفاتر ليتضح ان التماسيح والعفاريت ـ حسب وصف رئيس الحكومة ـ في الطريق وان مسار الاصلاح طويل وشاق والدليل على ذلك خروج نقاش دفاتر التحملات من طابعه القانوني, والذي يعطي لوزير الاتصال الصلاحية الكاملة في اعدادها, الى الصراع السياسي والايديولوجي والذي تتحكم فيه جيوب تقاوم وبشراسة اي اصلاح لانها تخدم اجندات معينة وتريد ان تحافظ على مصالحها في اطار الاستعمار الثقافي الذي مازال يشل ارجل هذا الوطن نحو التنمية, ويكبل ايديه نحو اتخاذ مواقف نابعة من ابناء هذا الوطن وتعبر عن اماني هذا الشعب.حيث هناك جهات لها ايادي طويلة ولها تجربة في لي عنق اي دستور, وطي صفحة اي اجراء كيفما كان نوعه, والالتواء على هذا الشعب المقهور في اي لحظة كما يفعل الثعبان لفريسته.هكذا تعرضت محطة اصلاح قطب الاعلام العمومي لاول اختبار على سكة الاصلاح, وبين هذا الدرس انه وان تغيرت رقعة اللعب فان قواعده لم تتغير, وبالتالي من الصعب التكهن باصلاح بدون مقاومة. ومن بين المواضيع التي استاثرت باهتمام الراي العام ايضا هي محطة الاعلان عن لوائح المستفيدين من الكريمات ومقالع الرمال حيث اعتبرت محطة اساسية للمكاشفة وخطوة مهمة لتنزيل صحيح لمضامين الدستور, والتي ترتبط بالوضوح فيما يتعلق بتدبير الشان العام, واولئك الذين يستفيدون من خيراته هذه سنوات . فرغم مااثاره هذا الموضوع من نقاش عمومي بين مؤيد ومعارض فانها تعتبر خطوة اساسية ليتعلم هذا الوطن المبادئ الاولى للديمقراطية, فالوطن كان منذ الاستقلال الى اليوم في ايادي اخطبوطية من المفسدين وتعاقبت عليه حكومات تعاقب الليل والنهار. وكل حكومة تعشش بيض هذا الشبح الذي يرعب ابناء هذا الوطن مما جعل الكثير منهم يفضلون ان يكونوا وليمة للاسماك في البحر المتوسط ـ ويكونوا على الاقل وجهة لعدسات الكاميرات ومواضيع الروبورطاجات ـ على ان يكونوا في قبضة هذا الشبح الذي يسمى الفساد, والذي يقتلهم ببطء وبلا ضجيج وبلا حتى صورة تذكارية. فلايختلف اثنان على ان الفساد انتشر في جسد هذا الوطن كالسرطان, وبالتالي فهو الامتحان العسير لكل الحكومات المتعاقبة, فكم هي كثيرة تلك التقارير التي أرسلها المجلس الأعلى للحسابات الى المحاكم فتحولت الى ملحمة شبيهة ب«الحرافيش» التي كتبها «نجيب محفوظ» سطور في سطور…، الآن رائحة ٳحدى تلك التقارير على الأقل عصفت بمدير القرض السياحي والعقاري «عليوة» ومدير المكتب الوطني للمطارات «بن علو» مما جعل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية هذه الأيام في دينامية لامتناهية, وهي تحس أنها أخيراً في مهمة فك قيود هذا الوطن المتألم.هذا طبعاً في انتظار مهمات أخرى الى مؤسسات عمومية أخرى أزكمت أُنوف المغاربة هذه سنوات، و في انتظار كذلك أن تأخد التقارير الأخرى طريقها الصحيح.وان تستجمع الحكومة كامل قواها لاقتحام ملفات شائكة, وقضايا مازالت تقزم من هامة هدا الوطن كلما تم اصدار تقرير من التقارير الدولية, والتي تديله وتضعه اسفل سافلين.
يلزم اليوم الالتزام بمقتضيات الدستور الجديد والتي تقوم على اساس المسؤولية المرفوقة بالمحاسبة كشعار لابد ان تؤسس له خطوات اجرائية وتفعيلية, ولابد من اصلاح القضاء باعتباره مربط الفرس وحجر الزاوية للاقلاع الحقيقي نحو دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية, وعلى الحكومة كما المعارضة ان تتحمل مسؤوليتها التاريخية ـ كل حسب دوره ـ في ازالة هذا الورم الذي يدمي الوطن في كل حين, ولابد اكيد من معرفة ان الاصلاح ومحاربة الفساد هي محطة ليست بالهينة, بل هي صخرة “سيزيف” الثقيلة, انه التحدي الكبير الذي يواجه الحكومة.
* طالب صحافي بعلوم الاعلام والتواصل فاس